نسمح لأنفسنا في هذا الحديث أن نحدد الذاكرة، باعتبارها وعياً للذات، باعتبار هذا الوعي شرطاً أساسياً للصمود والتماهي مع إرادة البقاء، وشرطاً لا مندوحة عنه للتهيؤ للمستقبل. في حدود هذا المفهوم، يمكننا القول إن الأمة في مواجهتها للمحتل، اتكأت على ذاكرتها، واستمدت منها المنعة والقوة، من خلال استنهاض إرثها ومخزونها الحضاري، وكان الإسلام أهم أركان ذلك المخزون.
ولأن الإسلام، هو نقطة البداية في وعي العرب لهويتهم، وتأسيس دولتهم التي امتدت إلى أصقاع الأرض، حيث مشيئة الله، فإن العلاقة أضحت عضوية بين الدين الحنيف وأبناء هذه الأمة، لدرجة جعلت من الصعب الفصل بين العدوان على أي منهما. وكان المحتلون يدركون بقوة هذه الحقيقة. ولذلك لم يفصلوا بين العدوان على الأرض والعدوان على المقدسات الإسلامية.
رأينا تلازماً بين سطو الاستعمار الفرنسي بالجزائر على الأرض، وامتهان العقيدة الإسلامية. وكان امتهان عقيدة العرب جزءا من تخريب الثقافة القومية للشعب الجزائري، وتدمير مقاوماته. ولذلك تداخلت في النضال الوطني المضامين الدينية مع معاني الكفاح من أجل الاستقلال. وحين وصل الجنرال غورو بقواته إلى سورية، لم تغب عن ذاكرته الحروب الصليبية. وأمام قبر المجاهد صلاح الدين الأيوبي، بطل موقعة حطين، قال مخاطباً له «ها نحن عدنا يا صلاح الدين».
هذه الرؤية تمكننا من فهم الأسباب التي تدفع بالمحتل الغاصب إلى التعرض لبيوت الله التي هي أحد عناصر قوة الشعب المؤمن، ومواريثه الحضارية. ومن هنا نفهم لماذا حرص مجرم الحرب، أرييل شارون على تدنيس المسجد الأقصى، ولماذا تعرض المسجد الأقصى لعدة محاولات تخريبية منذ احتلاله في حرب يونيو/ حزيران العام 1967. إن شارون يريد قهر إرادة الفلسطينيين، بالتعرض لمعتقداتهم، ويأتي ذلك في الأغلب متزامناً مع اعتداءات أخرى على العرض والكرامة.
والأنكى، أن الغرب الذي عمل جل ما في وسعه لتخريب المقاومات العربية، يستنكر على العرب والمسلمين رفضهم سياساته، فيبرز السؤال، لماذا يكرهوننا؟! بعد أحداث سبتمبر/ أيلول عام 2001 مباشرة، في الصحف الغربية ومحطات التلفزة، وعلى ألسنة مسئولين وكتاب أميركيين وأوروبيين.
سالت منذ ذلك التاريخ مياه كثيرة، فقد أعلنت إدارة الرئيس الأميركي، جورج بوش بعد أحداث سبتمبر مباشرة حرباً عالمية على الإرهاب. وشهد العالم هجمة غير مسبوقة على العرب والمسلمين، وفي هذه الهجمة يكمن الجواب عن السؤال: لماذا يكرهوننا؟
منذ ذلك التاريخ، جرت هجمة شرسة على العرب والمسلمين... احتلت أميركا أفغانستان والعراق، الأولى تحت ذريعة إيوائها زعيم «القاعدة» الذي أعلن مسئولية تنظيمه عن تفجير برجي مركز التجارة في نيويورك، ومبنى البنتاغون في العاصمة واشنطن، والثانية، تحت ذريعة امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وعلاقة مفترضة بتنظيم «القاعدة». وفي كلتا الحالتين، كان الغزو مدمراً... صودرت أوطان، وأعيدت صياغة هياكلها، بما يتسق مع مشاريع التفتيت، وغلبت الهويات الجزئية على المكونات الوطنية، واستندت إلى القسمة بين الطوائف. وفتت النسيج المكون للهويات الجامعة.
وفي فلسطين، قضم الجزء الأكبر من الضفة التي هي بحكم القانون الدولي، أرض محتلة. وفصل قطاع غزة عن الضفة، وأقيمت فيه حكومة خاصة به. أصبح التفاوض بين الفلسطينيين والصهاينة يجري على أقل من 47 في المئة من أراضي الضفة. وطوي ملف حقوق اللاجئين، وتسابق الرؤساء الأميركيون، إلى تأكيد يهودية قدس الأقداس، واعتبارها العاصمة الأبدية للكيان الغاصب.
وخلال عقد من الزمن، جرى تدمير خمسة جيوش عربية، وكان العراق، هو المحطة الأولى في مشروع التدمير، والهدف عدم تمكين هذه الأوطان من الدفاع عن نفسها، عند تعرضها للعدوان، وبذلك تفقد الدولة الوطنية الحديثة، أهم عناصر قوتها. وليس ذلك فحسب، بل إن الصمغ اللاصق، للبلدان التي جرى تركيبها، بعد الاستقلال، تفكك بفعل الحروب الأهلية التي شهدها عدد من البلدان العربية، والتي هي بالأساس نتاج تخطيط من يوجه السؤال: لماذا يكرهوننا؟
لم يتصور أحد، أن يتم التجاسر على أهم عنصر من عناصر حيوية وبقاء الأمتين العربية والإسلامية، وأن يوجه الخنجر، إلى عقيدة المسلمين مباشرة. لقد استهدفت في هذا العقد ذاكرة المسلمين ومعتقداتهم، أكثر من مرة. والهدف كما بدا واضحاً، هو أن تنتقل الحرب من تفتيت الأوطان وتمزيق الجيوش إلى تفتيت الهوية.
أخيرا، عادت الهجمة على الإسلام إلى الواجهة، بعد سنوات قليلة من نشر رسوم كاريكاتيرية، نشرتها صحيفة دنماركية، أساءت إلى الرسول الأعظم، بإخراج فيلم أميركي أكثر عدوانية على المسلمين وعقيدتهم، في تحد واضح لمشاعر المسلمين، واستهجان لردة فعلهم، فتكون النتيجة عودة إلى أعلام القاعدة ترفرف في عدد من المدن العربية، ويعود إلى التطرف حضوره القوي. يضاف إلى ذلك أن الجهة التي أصدرت الفيلم زجت باسم منتج قبطي ضمن قائمة منتجيه، بهدف التحريض على أقباط مصر، وزج أرض الكنانة في أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. وذلك ما ينبغي أن يحذر منه أهلنا وأشقاؤنا في مصر، عملاً بمنطوق القرآن الكريم: «ولا تزر وازرة وزر أخرى» (الانعام: 164) صدق الله العظيم.
لابد من وقف هذا العبث، وأن يدرك صناع القرار في الغرب، أن وقف التطرف رهن بعدم التعرض لمعتقدات العرب والمسلمين. ولن يجدي تعلل الغرب بحرية الرأي والتعبير. فالكل يدرك أن ذلك ينسحب عليه ما ينسحب على غيره من ازدواجية المعايير، لدى الغرب، حين يتعلق الأمر بحقوقنا.
لماذا يكرهوننا؟! سؤال يملك الغرب وحده أسبابه، ويملك وحده الآن ألا يعاد طرحه مجدداً، بأن ينتفي المنطق الأرسطي، الذي يعد بعض البشر أقل استحقاقاً من غيرهم، ويصنفهم في خانة الكائنات غير المكتملة إنسانياً... نقول إن لنا حقوقاً: حقنا في احترام عقيدتنا وعدم الاساءة إليها من أي كان، وحقنا في الحرية والاستقلال والثروة، وحقنا في فلسطين وفي المقدمة منها قدس الأقداس وعودة اللاجئين إلى ديارهم، وحقنا في ألا تمس هوياتنا الوطنية الجامعة. في ضمان هذه الحقوق مجتمعة يتحقق ميزان العدل، ولن نكل أو نمل عن المطالبة بها، والكفاح من أجلها.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3674 - الخميس 27 سبتمبر 2012م الموافق 11 ذي القعدة 1433هـ