في مثل هذه الأيام من عام 1932، كان المهاتما غاندي المسجون مضرباً عن الطعام احتجاجاً على قانون انتخابي أعدته الحكومة البريطانية في الهند، يمنع فيه مشاركة طبقة المنبوذين من التصويت. لم يحرم المنبوذون من حقهم الطبيعي؟ ومن جعل النبذ طريقهم في الحياة وقد كرّم الله بني آدم قاطبة؟ وهل ذنبهم أن الإرث التاريخي والاستحقاق السياسي جعلهم منبوذين، وهل من الإنسانية أن نقسم البشر في طبقات؟ النبذ قصة بشرية تجري في التاريخ وسط الأمم والشعوب في كل زمان ومكان بمسميات مختلفة وبطرق ملتوية، لكن كلها تدعو وتؤسس لنبذ جماعة وتهميشها بقصد استصغارها وامتهان كرامتها سواءً بدافع عقيدة دينية تفضي إلى الكراهية أو اختلاف سياسي يدعو إلى الانتقام. ويبدأ التحيز يأخذ أشكالاً متعددة ضدهم، ابتداءً من الخدمات التي يحصل عليها الجميع وانتهاء بالهبات التي ينعم بها الخاصة.
المنبوذية هي ممارسة اجتماعية وسياسية لنبذ جماعة بفصلهم عن المجتمع، أما بتقاليد وأعراف اجتماعية، أو أمر قانوني مباشر أو غير مباشر، وجاءت المنبوذية اشتقاقاً من لفظ نبذ، أي نبَذ الشّيءَ طرَحه وألقاه، تركه وهجره، «فَلَولا أَنَّهُ كان من المُسبِّحين، لَلَبِثَ في بطنِهِ إلى يومِ يُبعَثُون، فَنبَذْناهُ بِالعرَاءِ وهُو سقيمٌ». (الصافات143- 145).
مازال العالم يضج بطبقاتٍ من المنبوذين، ولايزال التحيّز ضدهم موجوداً، يرثونه جيلاً بعد جيل، فالهند منذ 2000 عام مازالت تحتفظ بتقاليد اجتماعية تقسّم المجتمع إلى طبقات ودرجات، فمنذ وصل الآريون إلى الهند شكَّلوا طبقات من المجتمع الهندوسي لاتزال قائمة إلى الآن، ولا طريق لإزالتها لأنها تقسيمات أبدية من خلق الإله كما يعتقدون، فعِلية القوم هم البراهمة الذين خلقهم الإله براهما من فمه، ومنهم الكاهن والقاضي، وتأتي بعدها الكاشتر وهم الذين خلقهم الإله من ذراعيه وهم يحملون السلاح للدفاع، بعدها طبقة الويش وهم الذين خلقهم الإله من فخذه يزرعون ويتاجرون ويجمعون المال، أما الطبقة الدنيا وهم المنبوذون فيطلق عليهم الشودر أو التشودرا، وهم الذين خلقهم الإله من رجليه، وهم من الزنوج الأصليين، وعملهم مقصور على خدمة الطوائف الثلاث السابقة الشريفة ويمتهنون المهن الحقيرة والقذرة، ويحرم عليهم ما يتمتع به الآخرون.
ومع هذا النظام يدفع أكثر من 200 مليون نسمة ثمناً اتجاه التمييز فلا حياة ولا تعليم ولا عمل ولا قانون منصف. ولقد ثار غاندى على هذا الموروث الديني الاجتماعي، ودفع حياته ثمناً لدفاعه عن المنبوذين الذي كان يسميهم «هاريجان»، أي أطفال الله، وكان كثيراً ما يقول للناس من حوله: «كيف نعترض على معاملة بريطانيا لنا على أننا منبوذون ونحن نعامل أهلنا المعاملة نفسها؟».
حكومة الهند لم تخلق هذا الوضع، وهي تحاول جاهدة لإزالته لكنها تلاقي صعوبات جمة، فعندما خصصت مقاعد محددة للطلبة من الطائفة المنبوذة في كلية الطب ثار علية القوم لأن نصيبهم انخفض، لذا فإن أمام الهند جهداً جباراً لإقناع جمهورها الذي تعود على هذا النظام الطبقي الظالم، بأن المنبوذين مواطنون لهم حقوق في الوطن. بلدان كثيرة تعاني من ذلك وهي تحاول نشر ثقافة العيش المشترك وخلق جيل يؤمن بالشراكة المجتمعية، من خلال مناهج دراسية تشجع الطلبة على الاختلاط بالطوائف الأخرى وتعليمهم أن يعيشوا معاً بسلام.
وللأسف لدينا هنا واقع مختلف، فمجتمعنا الذي يعيش بوئام، يخلق منه منبوذون محرومون، تميز طائفة اختلفت سياسياً مع ما عداها بالنبذ، ومع السنين يصبح هذا النبذ بحقها عرفاً سائداً خصوصاً مع إطلاق تسميات فيها من التعدي الشيء الكبير. فليس من الحق في شيء أن تؤسس الدولة كياناً منبوذاً جذوره ضاربة في الأعماق تبعده عن حقوقه وتحرمه من العيش الكريم.
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 3672 - الثلثاء 25 سبتمبر 2012م الموافق 09 ذي القعدة 1433هـ