لعلَّ أهم ما يميّز فترات الازدهار في تاريخ أي مجتمع وأمة هو حالة الثقة بالنفس والثقة بالغير، ففي فترات الازدهار الحضاري يشيع الانفتاح على ثقافة الآخر ويسود الفضول العلمي وحب الاستطلاع وتعيش الأمة حالةً من التسامح الديني والتسامي الاجتماعي على الخلافات أيّاً يكن لونها.
والملاحظ أن ضعف الثقة بالنفس يؤدي في المقابل إلى التعصب، والانغلاق، والضيق بالآخر، فمدرسة التواصل تسود في عصور الازدهار، ومدرسة القطيعة تسود في عصور الانحطاط، يستوي في ذلك الفرد والمجتمع.
فالفرد كلما زاد نضجه الفكري والإنساني أنس بالآراء المختلفة واتسع صدره للآخرين وصار أكثر ترحيباً وإصغاءً للآراء المتضاربة والنظر للأمور من زواياها المختلفة.
سألت ذات مرة أحد أساتذة الجامعة ممن كنت أعتبرهم قدوة في الجدل العلمي والإحاطة الفكرية بكل جديد في مجال تخصصه، عن شخصية فكرية جدلية عرفت بجرأتها في نسف وزحزحة الثوابت المعروفة في الوعي الديني الإسلامي، فتفاجأت حين سمعته يشيد به بقوله: «قرأت كتبه، وأرى أن في بعض آرائه ما يستحق أن يُعاد النظر فيه بشكل جدي، وبعضها أقرأه على سبيل الاستئناس». غيّرت هذه العبارة نظرتي ليس في خياراتي الفكرية فحسب، بل على مستوى نظرتي إلى الحياة كأفق مفتوح للاختلاف البشري الخلاق.
إن الابداع لا يكون إلا في «الحدود» بين ثقافتين، فالثقافة الابداعية عموماً هي ثقافة تركيبية. وعلى طول الخط؛ فان الفكر البشري خضع دوماً لعملية طويلة ومعقدة من «الانتخاب» ليبتكر نموذجاً في الحياة طبقاً لأسس تاريخية وثقافية تلائمه.
الثقافات مجال من مجالات التقليد والأخذ، وذلك أن ثقافة أي شعب إنما هي أمرٌ متوارثٌ على مر العصور، صالح للتبديل والتحويل قدر ما يتغير العرف والفكر؛ فإذا عرض لثقافة من الثقافات من المؤثرات ما هو صالح لأن يبدلها أو يعدلها، كان ما يلحقها من تبديل أو تعديل دليل حيوي ومرونة، لا دليل خسة وركود، وقد قامت الدلائل على تأثر الإغريق بالمصريين، وعلى تأثر الرومان بالإغريق، وعلى تأثر كليهما بالفرس وتأثيرهم فيهم، ثم على تأثير كل أولئك على العرب، ثم أخذ الثقافة الأوروبية عن كل هذه الأمم، ومن بينها وأشدها تأثيراً العرب، لتنعكس الآية اليوم ويصبح العرب ذيلاً من ذيول النهضة العلمية المعاصرة.
ويلاحظ غالبية المؤرخين أن الفن والعلم والأدب مدنية الطابع، أي تنبع دائماً من المدن، وتزدهر فيها، يقول أحمد أمين (ت 1954): «أنت ترى الأفكار الجديدة وآراء المصلحين إنما تنشأ في المدن أولاً، وكذلك معاهد العلم والأدب والفن من مدارس وجامعات ومكتبات وصحف ومتاحف، إنما تعظم وتكثر في المدن لا في القرى»، ويعزو أمين ذلك إلى أسباب أهمها أن المدن أكثر ناساً وأوفر عمراناً، ويقول إن الغنى النسبي لأهل المدن يوفّر لهم أوقاتاً يصرفونه في غير كسب القوت، ما يؤدي إلى «نوع من الرقي السياسي يستطيع الناس معه أن يتبادلوا الآراء والأفكار، وينظرون إلى الحياة غير هذا النظر المادي الوضيع، فينشأ الرأي وينشأ العلم ويزهو الأدب». وبالطبع فان حديث أمين لا ينطبق تمام الانطباق على عصرنا الحالي، عصر العوالم والأثير المفتوح، عصر تويتر والفيسبوك الذي كان أبرز وسائل الربيع العربي في زمن الشعوب واندحار الدكتاتوريات الهرمة.
ما يجري اليوم هو أن هناك في وطني الحزين فئةً تحاول توظيف وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة كـ «أدوات قطيعة» اجتماعية، فلأننا مجتمع يعاني هشاشة داخلية، وثقتنا في ذواتنا مهزوزة وإحساسنا بالهوان عميق؛ نلجأ إلى تدمير كل جسور الثقة والمحبة تحت غطاء الدين والمذهب، وقد تحوّلت وسائل التواصل العربية الى ساحات احتراب تستخدم فيها كل سيوف الإسلام ومتونه وحشد هائل من الشتائم العصرية لتسجيل فتوحات وهمية في الأثير المزدحم بكثير من السذاجة وقليل من الفطنة والرشد، وحسبي ما قاله الراحل الجميل نزار قباني (ت 1998) في هوامشه على دفتر النكسة: «خلاصةُ القضيّهْ توجزُ في عبارهْ:
لقد لبسنا قشرةَ الحضارهْ... والروحُ جاهليّهْ».
قيح الكراهية الذي يتواصل في شكل سيل من الكتابات الصحافية والتغريدات السقيمة والخطب الدينية التي تنضح بحقد دفين وجهل أعمى مستمرة، لأنها أكثر من يعرف أن يد القانون أقصر من أن تطالها، وفي الحين ذاته، فإن خطاباً وطنيّاً حريصاً على البلد ومكتسباته لا يزال يتشبث بإخلاص منقطع بالمفاهيم والرؤية التي ناضل طويلاً من أجلها، والهدف المعلن هو التعتيم على هذا الخطاب الواعي والالتفاف عليه من خلال الاستهداف الاعلامي وخطب التكفير ونعوت التخوين الوطني التي لاتزال يدمغ بها الخطاب الإعلامي الرسمي بحرينيين أصلاء يطالبون بالعدالة وعيش أفضل لهم ولأبنائهم في بلد يؤمل أن يتساوى فيه الجميع أمام القانون.
خطورة المجتمع القلق وغير الواثق من ذاته؛ ليس في أصل وجود الصراع السياسي؛ بل في أدواته وأشكاله الضارة وغير المهذبة، فهناك فئة تعاني وتشعر بأنها مستهدفة رسميّاً، وهي محل قطيعة شعبيّاً من المكوّن الآخر، وبات الحذر والاسترابة هما سيد الموقف، والعلاقات الاجتماعية باتت «شر لابد منه» وتجري في «أضيق الحدود». ومجتمع كهذا بالتأكيد لن يعثر على استقراره السياسي وتوازنه النفسي والاجتماعي ما لم تتم معالجة الأزمة السياسية بشكل جريء وجدي.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 3671 - الإثنين 24 سبتمبر 2012م الموافق 08 ذي القعدة 1433هـ
ليتهم يدركون
ليتهم يدركون خطورة ما اوقعوا انفسهم فيه.. مجتمع على شفير حرب اهلية
متهم ب ا ل ط ا ئ ف ي ة
مجتمع لايستنكر بل يشمت عندما يرى القتل والتعذيب وانتهاك الاعراض والمقدسات وقطع الارزاق وهدم دور العبادة مجتمع لا يحق له ان يتصف بشيئ من الإنسانية ولا يستحق الاخوة فليس افضل من شيء مع هذا المجتمع من الابتعاد عنه وعدم التخالط معه والتبري منه في الدنيا والآخرة..