لن نتحدث هنا عن دور جمعيات حماية المستهلك في الوطن العربي فالحديث عن دورها مكرر من دون فائدة والعرب قالت قديما: «إذا أراد الله بقوم سوءاً أعطاهم الجدل ومنعهم العمل». إضافة إلى أن هذه الجمعيات لم ترقَ إلى مستوى طموح المواطن وفي الوقت نفسه ليس لها دهاء الشركات العملاقة المسلحة بموارد بشرية مدربة تدريباً متقناً.
هذه الجمعيات المترهلة كان من واجبها أن تقوم بحملة مكثفة لنشر ثقافة حماية حقوق المواطنين، وأن تضرب بعنف على يد الشركات الماكرة المتجاوزة للحدود والمستغلة لواقع وظروف المجتمعات الإنسانية.
والسؤال هنا: لماذا تقوم شركات مثل ماكدونالد بدراسة عادات الإنفاق لدى الأطفال الصينيين وكيفية تأثيرهم على ذويهم في الإنفاق لكي تتوسلها كقنوات لترويج منتجاتها؟ هذا النشاط المريب للعديد من الشركات هو الذي جعل عدداً من كبار المفكرين الصينيين يطلقون صرخة مدوية يحذرون فيها مجتمعهم الصيني من السرطان الخفي المتمثل في تفشي القيم الاستهلاكية، وهو تحذير يشبه ما قام به غورباتشوف في الاتحاد السوفياتي عندما أطلق البروسترويكا في ثمانينيات القرن الماضي محذراً من أن انتشار نزعة القيم الاستهلاكية سيدمر قيم المجتمع وسيتسبب في انهيار الاتحاد السوفياتي.
المراقب للمشهد الاجتماعي يرصد أن الشركات تصول وتجول وتفعل ما حلا لها وطاب بما يستبطن نوعاً من الاستخفاف بإنسانية الإنسان في هذا الحيز المكاني من العالم. في الوقت الذي يروج فيه لحملة منظمة من أجل تسفيه كل نقد أو رأي معارض على أنهما تخلف وخروج عن روح ومتطلبات العصر. نعم، نحن نعلم أن سيكولوجية الإعلان تستطيع تعطيل الحس الكتابي النقدي من خلال الإعلام المرئي وثقافة الصورة بما تتمتع به من فصاحة إلكترونية وقوة تأثير، وخصوصاً أن هناك نسبة أمية عالية في الوطن العربي، ما يجعل الصورة أكبر تأثيراً من الكلمة.
في منطقة الخليج العربي المثال الأكثر وضوحاً لانتشار قيم الاستهلاك وبمشاركة غير ذكية من قبل الوالدين نلاحظ الأطفال يتجولون في المجمعات والأسواق ويشترون بشكل لا يتفق مع صغر سنهم ولا مع احتياجاتهم الحقيقية. بل إن هناك العديد من الأسواق تقوم بتوفير عربات صغيرة مخصصة لتسوق الأطفال فيقوم هؤلاء (الأبرياء) بتقليد آبائهم في جر عربات التسوق وكأنهم في برنامج تدريبي على أن يصبحوا كائنات استهلاكية في المستقبل!
إلى جانب أن سلوك القدوة غائب، والشواهد كثيرة ومنها حجم نفايات المنازل التي تبلغ ملايين الريالات يومياً، وهذه النفايات ليست مؤشراً على القدرة المالية للأسرة بل قد تعكس سوء عادات الأكل الباذخة. هذه العادات الغذائية السيئة تتحكم بها أحياناً عملية إغراق الأطفال بالإعلانات الغذائية خلال برامج الرسوم المتحركة والذي بدأ يشكل ظاهرة مخيفة مقلقة، ذلك أن غالبيتها إعلانات عن مواد غذائية ضارة! يقول نورمان دوجلاس: «تستطيع أن تتعرف على مبادئ أية أمة بمشاهدة إعلاناتها».
الطفلة التي نشأت على متابعة آخر صيحات الموضة واقتناء أفضل الماركات العالمية، عندما تصل إلى سن الزواج يكون الوقت قد تأخر كثيراً على تعديل سلوكها. ولسان حال الشاب الذي يتقدم لزواجها يقول: «لا يصلح العطار ما أفسد الدهر». فالأرقام والإحصاءات حول الطلاق والانفصال قبل الزواج في مجتمعنا لها علاقة وثيقة بقدرة الشاب الاقتصادية المتواضعة، والتي حتماً لا تلبي طموح الشابة القائم على اقتناء أفخر الماركات، والمقارنة بالآخرين والسفر والبهرجة الاجتماعية (هناك حالة طلاق كل 6 دقائق بالسعودية).
لقد أفرز انتشار القيم الاستهلاكية جيلاً لا يستطيع التحكم بسلوكياته المعيشية بحيث تورط العديد من الشباب والعائلات في العيش بأسلوب لا يتناسب مع دخلها الشهري، فلجأت شريحة عريضة من الناس إلى البطاقات الائتمانية والقروض المصرفية.
والأمر لم يتوقف عند قيم الاستهلاك بل إن هذه الشركات عملت على خلط فكرة الترفيه بعملية التسوق. فالناس عندما تذهب إلى المجمعات لا تدري هل هي ذاهبة للاستجمام والتنزه أم للشراء والتبضع! الناس في ظل السكرة الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية ليس مطلوباً منها أن تذهب إلى المسرح أو السينما أو معرض الكتاب أو أمسية موسيقية راقية أو ملتقى فن تشكيلي، لأن الإنسان في ظل هذه الثقافة قد تحوّل مترنحاً إلى كائن أعجمي يجيد عادة التسوق والأكل في المطاعم.
بل إن الهجمة الإمبريالية الإعلانية ذهبت إلى أبعد من ذلك حيث استطاعت أن تدمج بين الاستهلاكي والتربوي، وتمكنت أخيراً من اقتحام فضاء المدرسة المقدس أمام صمت الجميع. فأبطال الأطفال المحببون في الرسوم المتحركة يتم استخدامهم اليوم كوسائط إعلانية في الحقائب التربوية والأدوات المدرسية وهي عملية تطال الملايين من الأطفال. فماذا يعمل الأطفال الفقراء؟ (يشير تقرير البنك الدولي عن مؤشرات التنمية للعام 2001 إلى أن هناك 113 مليون طفل لا يستطيعون الذهاب إلى المدارس).
إن تنشئة الجيل على حب الاستهلاك وربطهم بمنتجات معينة يجعل منهم لقمة سائغة مستقرها بطن الشركات عابرة القارات، لذا يجب علينا أن نذهب مباشرة إلى تحصين المواطن ضد وحشية الثقافة الاستهلاكية لرفع درجة وعيه, فيتحصن بمناعته الذاتية وكذلك قناعته بأهمية دور الوالدين في الأسرة العربية.
وعلى رغم أن هذه الشركات العملاقة لاتزال تستعرض عضلاتها فالأمل الكبير معقود على ثقتنا بقدرة شعوبنا على القيام بصناعة استراتيجية عصامية تمنع الاستغلال وتحافظ على الهوية، وثمة في الأفق ما يبشر بتحقيق ذلك.
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 3668 - الجمعة 21 سبتمبر 2012م الموافق 05 ذي القعدة 1433هـ
المسؤولية المشتركة
الحقيقةان تعديل السلوك الاستهلاكي وتعميم مفاهيم الثقافةالاستهلاكية السليمة للمجتمع ليست مسؤوليةجمعيات حماية المستهلك وحسب بل هي مسؤولية الدولة اولا وهي كذلك مسؤولية مشتركةللمؤسسة التربوية والدينيةوالاعلاميةوالثقافية والمؤسسات الاخرى،كما للاسرةوان المدرسةوالمناهج التربويةوالتعليميةتقع على كاهلهم المسؤوليةالاكبر في هذا السياق واذا ما ادركنا ان الطفل يتعلم من الاعلام اولا ومحيطه الاسري اولا والمحيط المجتمعي ثالثا فعلينا ان نتبين ما الذي ينبغي علينا فعله وفق هذه المعادلة لتغيير نمط الاسهلاك الخاطئ