يقلُّ النجاح حيث يقلُّ الضحك. هكذا قال أندرو كارنجي أحد أهم صنّاعيّ القرن التاسع عشر. لا بأس إذاً إن ضَحَكنا علَّ نجاحنا يزداد. شخصيّاً، كثيراً ما أضحك عندما أمرُّ بالقرب من بواباتِ المدارس، مع بداية العام الدراسي. أحَملِق في الطلاب وفي هيئاتِهم وأسمَالَهم. إنهم مختلفون تماماً عن طلاب زماننا، حتى في أحجامهم. إنهم أصغر إذا ما قورنوا بأبدان مَنْ كانوا في حقبة كنا نحن فيها شهوداً. لقد جاوَرْنا زملاء، بمنكبيْن عريضيْن، وهَوَج في الطول ولهم أصوات رخمة وشوارب مُدبَّبة!
بعض مَنْ أراهم من الطلاب هذه الأيام يأتي راجلاً من منزله المجاور. لكن أزيدهم، يأتي مُبجَّلاً في سيارة تقِلُّه كشيخ عربي، أُوْلِمَ له في مجلس. وآخرون يأتون في حافلات صغيرة، تكابد الطريق بهم، لآخر خطوة تقرِّبهم لمَدرَسَتِهِم. في داخل المدرسة، يبدو كلّ شيء مختلف عمَّا كان في السنين المنصرفة. المناهج التعليمية وطرق التدريس ومَنْ يُدرِّسون، وأجواء الفصل وفناء التمَشِّي. بل حتى مُسمَّيات الألعاب. أما الطعام والشراب، ففارقه كفارق الكَفاف عن الكِفاية.
في البيت، يملك الطالب اليوم ما لا يملكه ابن أصحاب الذوات في تلك الحقبة. حاسب آلي، وهواتف محمولة وثابتة، وأحدث الأجهزة الذكيَّة. فإذا ما أراد أن يتواصل مع زميل له كي يسأله عن واجب منزلي فاته، أدرك منه ذلك وهو في مكانه، عبر أحدث الأدوات التواصلية والاتصالية، المركونة تحت وسادته أو مقعد دراسته المنزلي. كثير من الطلاب لديه محفظة بها صرَّة من الدنانير، في حين يُدفع لآخرين منهم أجر يومي مجزٍ يساوي أكل أسبوع مما كنا نعد. هذا العالَم، مختلف تماماً عن عالم انصرفت أيامه.
أتذكَّر، أن السنة الإعدادية الأولى لي، قضيتها في الذهاب والإياب إلى مدرستي البعيدة، مَشيًا على الأقدام. صيفاً وشتاءً. ربيعاً وخريفاً. لم أكن الوحيد، ولم يكن ذلك دليلاً على الإملاق أو اليسر. فجميع مَنْ كانوا معي أرغِموا على ذلك مُكرَهِيْن، مجاراة لسمة ذلك الزمن. بالتأكيد، لم يكن ذلك شيئاً مُستَنكَراً على أحد حينها، لأمر أجهله لغاية الساعة، رغم مُضِي أزيد من خمسة وعشرين سنة.
وفي السنة اللاحقة، وعندما تم نقلنا إلى مَدرَسَة تبعد عنا نصف فرسَخ أو أقل، كانت الحافلة أشبه ببعير هائج. مَنْ لا يجري وراءها لا يُدركها، فهي لا تمتلأ فقط، وإنما تكاد تنفجر من أبدان البشر المتلاصقة، جلوساً ووقوفاً وكأنهم في محشر. تشمُّ منهم «ركيزة عَرَقِيَّة دُهنيَّة جُبنيَّة حَامِضَة، تلتصق بالناس كافة على الدرجة نفسها»كما كان يوصف باتريك زوسكيند رائحة البشر في روايته الرائعة المسمَّاة «العطر».
في غير مرَّة، كنا لا ندرك الحافلة. فأجراس المدرسة عندما تدُق، فهي تعني بداية النفير العام، ومراسم المحشر اليومي، فنمشي ونحن نسارع الخطى كخَبَبِ الخيول، من موضع حوافرها، إلى تخوم مضاربنا، لا يرحمنا قيظٌ حارقٌ، ولا شتاءٌ زمهريرٌ. نصِل إلى مساكننا وقد خارَت قوانا، وانتفخت أقذِلَتنا. ويتكرَّر هذا المشهد، كلما أخفقنا في الصعود إلى الحافلة وما أكثرها من أيام.
أتذكر جيداً، كيف أن الأسفار والقراطيس والدُّويَّ وأضرابها من مستلزمات التعليم، نصُرُّها على بعضها برِباط ضعيف من الخَلَق لا يزيد عرضه عن نصف إبهام، فتكاد حاجياتنا تنصَرُّ من الملء، كما قال عمران بن حصين. رِباطٌ لا يزِيد حقه عن مئتي فلس! تخيَّلوا! مئتي فلس فقط، في حين، أن حقيبة الطالب اليوم، وَصَلَ حقها إلى عشرين ديناراً، أي بزيادة مئة ضعف عن ذلك الرِّباط.
في الفصل، وأثناء تحصيل العلم، والحرُّ كأنه مَعْمَعَة، لم تكن هناك مُكيِّفات ترمينا بهواء يطفأ ناراً مُوقَدَة على الرأس، وفي الأعين والصدور، بل مراوح بالية، مُدلاة بعنق أشنَق، لا تغني ولا تسمن من جوع. تدور أجنحتها ببطء سلحفائي، بينما يتمايل جسدها كأنها تهزُّ خصراً. أتذكر، أن أذرعنا كانت تتصبَّب عرقاً، فيبتلّ قرطاس الكتاب، أو يُسيِّلُ ذلك حبراً من على كتف كنا نخطُّ عليه. ومازلت أتذكر أيضاً، أن إدارة المدرسة، كانت تطوف علينا بكؤوس من الماء البارد، أثناء تقديمنا الامتحانات النهائية، رحمة بنا وبحالنا. فالحر كان يأكل نصف الذاكرة التي شحناها طوال الليل بالمذاكرة.
هذا المشهد كان بالنسبة لمن سبقونا أرحم. ومشهد مَنْ سبقونا كان أرحم أمام مَنْ سبقوهم أيضًا. لكن الحقيقة التي نفهمها أن يُسْر استحصال العلم اليوم، هو أرحم من سابقنا وسابق سابقنا ومَنْ سبقوهم حتماً. لا مجال للقياس إطلاقاً. وإذا كان الحال كذلك، فمن الخسارة ألا يفضي اليُسْر الحاضر إلى شَرَف نَيْل العِلم. فقد قَطَعَ العِلم عُذرَ المتعلِّلين كما جاء في الأثر.
اليوم، كلّ ما يؤدي إلى التفوق والتميُّز مُتَاح. ما على الطالب إلاَّ أن يبدأ. أن يتحكَّم في وقته وساعات يومه جيداً. أن يلاحق المعلومة ويستولي على حيِّزها. أن يُدرك بأن التحدِّي أصبح مختلفاً عن السابق. وأن الحياة الجديَّة لم تعد في كيفية اقتناء أحدث موديلات التكنولوجيا العصرية. فهذه الأشياء لبنة في ظهر بناء عظيم هو العِلم.
لقد مرَّت البشرية في مراحل عِدَّة، وانتهَت إلى أن الأصل هو العلم. كان الأوروبي في بداية القرن الرابع عشر يطمح أن يكون كاثوليكياً أو بروتستانتياً كي ينال صكَّ الغفران، أو يُعمَّد لوثرياً. ثم سَعَى إلى أن يُصبح عبداً في مزرعة السَّيِّد، كي يتصدَّق عليه بشيء مِنْ حَطَبِها. ثم بات يسعى إلى التحرَّر. ثم أن يكون عاملاً ماهراً ثم جندياً في جيش إمبريالي يعطيه من غنائمه، ثم ثائراً ثم قومياً ثم فناناً ثم سياسياً إلى أن انتهى به الأمر إلى أن يكون طالب علم ومخترعاً فقط وهكذا كان.
نتمنى من هذا الجيل، أن يدرك الفارق بين ما هو فيه من نعمة، وبين مَنْ سبقوه (ليس بعقدين ونصف العقد فقط) والذين كانوا ينجحون ويتفوقون بنصف حياة. وربما أستحضر ما بدأت به لـ أندرو كارنجي عندما قال: يقلُّ النجاح حيث يقلُّ الضحك. نعم... يمكنكم الضحك والاستمتاع في طفولتكم وصِبَاكم، في الوقت الذي يمكنكم النجاح والتفوق والتميُّز أيضاً كما نجح كارنجي من عامل في مصنع للأجواخ إلى إمبراطور صناعة الصلب والحديد، وداعم للعلم والثقافة في الولايات المتحدة الأميركية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3666 - الأربعاء 19 سبتمبر 2012م الموافق 03 ذي القعدة 1433هـ
العبرة الصحيحة
يقلُّ النجاح حيث يقلُّ الضحك. نعم... يمكنكم الضحك والاستمتاع في طفولتكم وصِبَاكم، في الوقت الذي يمكنكم النجاح والتفوق والتميُّز أيضاً كما نجح كارنجي من عامل في مصنع للأجواخ إلى إمبراطور صناعة الصلب والحديد، وداعم للعلم والثقافة في الولايات المتحدة الأميركية.
أنا من مواليد 1959،،،تكملة.
والغريب أننا أكملنا الثانوية العامة ولم نتمكن من حفظ الجدول فيما تمكنا وبسهولة بعد ذلك من أصعب النظريات والمعادلات الرياضية ،، والحمد لله على كل شيء.
أنا من مواليد 1959 ،،تكمله.
فالقسم الثاني أكملوا دراسات عليا وتمكنوا من شغل مناصب رفيعة في الدولة سواء في الجامعة أو في مختلف الوظائف الأخرى وكذلك فعلوا مع أولادهم أما القسم الأول بقوا على حالهم الى مرحلة التقاعد لم يرتقوا حتى الى التدريس في مراحل متقدمة ومنهم من خرج من التعليم وذهب للعمل في أعمال شاقة كنا إذا رأيناهم في الشوارع نشفق عليهم بإيصالهم الى محل سكناهم لعدم تمكنهم حتى من امتلاك سيارة خاصة ولا اقصد ان اعيبهم ولكن لان اختيارهم للتدريس كان خطأ من الأساس.
أنا من مواليد منتصف 1959 وما ابي اقول أسماء مدرسينا الله يحفظ الحي منهم ويغفر للموتى.
كان مدرس الرياضيات في المرحلة الابتدائية الثاني -الثالث-الرابع يبي يحفظنا جدول الضرب بالقوة والعنف الشديد وارهاقنا به ضمن الواجبات المنزليه فيطلب منا كتابته 150 الى 300 مرة كل يوم والذي لايكمل العدد ينتابه درس جديد من اللكمات على الوجه والرأس ووضع الطبشور بين الاصابع والضغط عليها باقصى قوة ،وكذلك نفس الاسلوب يفعله مدرس العلوم بقسوة أشد اما البعض الآخر من المدرسين فمعاملتهم لنا كانت كالأب مع ابنه تماما /الآن فقط عرفنا القسم الاول من المدرسين أغبياء والثاني أذكياء.
Excellent Article
This master piece article should be published and issued to all students all over over Bahrain either attending Government or private schools to tell them what they enjoy now is a result of their sufferings in the past . A well written document.
أيه يالدنيا...
كانت أيام حلوة وبريئة... أما الحين مع ظهور الآيفون اختربت
صحيح...
أتذكر أول ما ظهر الآيفون كان حلماً جميلاً أن أقتنيه، أما الآن فأعرف أطفالاً في الروضة هديتهم أحدث إصدارة آيفون!!
اول
غريبه هالدنيا رغم الصعوبات اول كانت الحياه احلى يمكن لان الناس كانت قلوبها انظف
بيزات فيها بركة
في ذلك الزمن كان مصروفنا اليوم لا يتجاوز 100 فلس وكنا نشتري منها ونشبع واحيانا نخلي نص روبية حق العصر ..
صدق زمن بيزاته فيها بركة
رحم الله أيام زمان
وفقت أستاذ محمد ...إن صعوبة الحياة في الماضي لم تكن مانعا للمثابر من التفوق فنتمنى من أبنائنا أن يقدوا النعمة التي ينعمون بها
علي نور
لقد ابدعت في مقالك يا محمد كما لم يبدع احد من قبل في وصف مشهد كان لزيم الذاكرة لكل واحد منا،، فقد ارجعتنا الى ايامنا الاولى تماما كما لو اننا نعيشها الآن .. كل ما ذكرته انا مررت به بزيادة واحدة هي اننا كنا من شطانتنا نمرر السيكل من على سور المدرسة ايام مناسبات تستاهل الغياب والهروب من المدرسة فنستغل الفسحة لذلك.
ايام الخوالي
ذكرتني بالايام الخوالي يا استاذ محمد . لكن ورغم الحياة القاسية كانت تلك الايام جميلة جدا جدا
جميل جدًا
جداً جميل هذا المقال أستاذ محمد وبالتوفيق..