تكتشف انحراف بعض «المثقفين» - وأضعها بين هلالين لأنني لا أؤمن أن لبعضهم ارتباطاً بقيمة الثقافة ودورها وأثرها - في الأزمات إما لتسوية أوضاع منحرفة ومضطربة يعانون من تبعاتها وارتداداتها، ولا عذر لهم في ذلك، وإما للتماهي مع انفلاتهم عن قيمة الحياة ومعناها؛ عدا الحديث عن قيمة التأسيس والمعرفة، وفوق ذلك الإنسان. الإنسان الذي يتم بيعه والوشاية والتشهير به إما لابتزاز يتعرّض له بعضهم وإما لأنهم أساساً مشاريع بيع ووشاية ولا يحتاجون إلى ذلك الابتزاز كي يتخذوا موقفاً مثل ذلك؛ أو ينحازوا إلى العار والذل والإمعان في الوشاية اصطناعاً لتفاصيلها ونيلاً ممن لم تُتح لهم فُرَص الوشاية بهم في الأوقات المحفوفة والمسوَّرة بالكذب والنفاق واسترسال المصالح وادّعاء التغيير في أحسن الأحوال.
في الأزمنة الصعبة والمليئة بالقلق والاحتواء والاختطاف بواضح العبارة وصريحها، تتضح حقيقة المعادن، الطيب منها والرديء؛ وخصوصاً حقيقة معادن الذين أرهقوا الناس بمثالياتهم الفارغة في أوقات السَّعة؛ لتكتشف في أوقات اختبار المعادن تلك زيفاً شاهراً وهنه وعدمه وانكشافه في عراء لا نهاية له. تكتشف التهافت على بيع الجَمَل وليس ضرورياً أن يكون بحِمْل للنجاة بأنفسهم من مساءلة وعصف لا يحتملونه ولا طاقة لهم على الصمود إزاء أدواته. تتضح الرخاوة وتتضح النذالة في الوقت نفسه حين يفتش أشباه «المثقفين» عن أكثر من كبش فداء كي تتم مواراة سوءاتهم، واختبارات ضخمة من الفضائح والشذوذ عن السويّ من البشر.
نعلم أنه ليس على رأس المثقف ريشة؛ لكن على الأقل عليه التأكد أن رأساً يعلو جسده. الريشة لا تُهمّ. أشير إلى «المثقف» في أدوار الخسّة أوقات الأزمات والمنعطفات المصيرية واختطاف خيارات الناس. أشير إلى استعداده للعب دور ليس بالضرورة أن يُطلب منه؛ ولكنه يتبرّع ويبادر من تلقاء «تفاهته» للقيام بدور الوشاية حين يشعر بخطر انكشاف إضباراته وضعفه أمام الابتزاز وأحياناً لا توجد في إضبارته «الأمنية» ما يستدعي مثل تلك النذالة والذهاب إلى خراب البيوت والإمعان في الوشاية بشكل مقزز ومقرف ينمّ عن انحطاط لا يمكن أن تخطئه عين أو ضمير. وحتى لو افترضنا اكتظاظ إضبارته الأمنية بما قل أو كثر ذلك لا يمنحه الحق للنجاة بنفسه ولو على حساب مئات؛ بل آلاف ممن توهّموا أنه كان بشراً ذات غفلة وسَعَة أيضاً.
وشاية لا تستند إلى مؤشر دلائل يرسّخ القناعات بقدر ما تستند إلى محصّلات ومنافع وامتيازات ووجاهة مصطنعة وصفيقة، ومساحات يتم إفرادها في صحف لم تك تمنح أكثرهم مساحة إبهام ليحتلوا المساحات بعدها تفريغاً لأمراضهم وعُقَدهم وانحطاطهم وكشفاً لمعدنهم الرديء الذي لن تخطئ عينك في التمييز وتقرير أنه من صدأ كصاحبه.
البعض يختار الصمت والفرْجة وينأى بنفسه عن علاقته وحضوره في الحدث، وذلك أهون الشرّين. ولو أنه لا يخلو من الشر بهكذا موقف أمام ما يحدث. ليست تلك العيّنة هي المشكلة. المشكلة في من يزايد على كل صور القمع والاستلاب والتجاوز والانتهاك ويرى في الصور والمشاهد والممارسات تلك رخاوة لم تبلغ مبلغ الحسم والشدة. هم أنفسهم من كانوا في السَّعَة يثرثرون تباكياً على الفضاء الشحيح وصور القمع التي تنتهجها الأنظمة، وبعضهم كان وقوداً لنارها.
وشاة لم يوفروا وسيلة اتصال أو تشهير أو قفز على قيم ومُثُل إلا تبنّوها وانحازوا إليها. وشاة «مثقفون» بوظيفة مخبرين وعسس ودَرَك وصيّادي جوائز تماماً كالذين كنا نتسمّر أمام شاشات التلفاز لنراقب جلافتهم في أفلام رعاة البقر.
شهدنا هنا من كانوا زملاء دراسة وزملاء نص وزملاء فعاليات وزملاء مهنة وزملاء مؤتمرات ومهرجانات محلية وإقليمية ودولية. شهدنا اللصوص والشحاذين ومن توهّمنا أنهم نبلاء فاتضح أنهم دون ذلك بسنوات ضوئية. شهدنا من كانوا إخوة في مواساة وأفراح. ذهب كل ذلك وحضر الجُبْن والابتزاز والتبرّع بكل ذلك في أقل من طرْفة عين.
كنت أكرّر دائماً أمام زملاء ظلوا صامدين على رغم ما حاق بهم من تضييق في الرزق وملاحقات وتوابع ذلك. كنت أردد: لا تأسوا على ما حدث من خذلان وانحطاط. على العكس أنتم أصحاب حظ عظيم. ما حدث كشف لكم في فترة بسيطة ما كنتم بحاجة إلى اكتشافه لعقود من الزمن، وربما تنتقلون إلى العالم الآخر من دون أن تكتشفوا هذا الكمّ من الاضطراب النفسي والاستعداد لبيع كل شيء مادام الإنسان استسهل بيع ما يدل عليه: كرامته.
أتاحت لكم المرحلة اكتشاف تقلّب بعضهم وتلوّنه؛ وخصوصاً في أوساط «مثقفين» ومتعلمين. فرصة ألاّ تنخدعوا بسطح وقشر المعادن. حتى الحديد الذي هو موضوع القوّة والبأس يظل موضوع صدأ. يمكن أن تتم مواراة هيئته بقشرة من ذهب. لكنه يظل حديداً مرهوناً للصدأ. عوامل التعرية هي الأخرى كفيلة بكشف أصله وقيمته. الحوادث والنوائب والأزمات هي بمثابة عوامل تعرية تكشف معادن البشر ومن هم على النقيض من ذلك «أشباه البشر».
نعود بعدها إلى ما أُنجز وكُتب وتم التلويح به والتصفيق له في مهرجانات وندوات ومؤتمرات. كل ذلك برسْم الغياب. فيه روائح دم وتعذيب وعذابات وانهيار علاقات وتشرّد وفاقة وإهانة للضحايا الذين وجد فيهم ذلك «المثقف» كنزه الذي لا ينفد، ومستقبله الذي تأخر، ونفوذه الذي هُمّش، وفشله الذي كان مثار سخرية واستعراض في الأعمدة والمساحات التي كانت متاحة في زمن ما.
ما الذي سيجنيه أولئك على المدى البعيد، حين تسترد الحياة طبيعتها ومواجهتها لرفض الشاذ من ممارسة انتهاك حقوق البشر، والنظر إليهم باعتبارهم سقْط متاع؟ ما هو موقعهم من الإعراب حين يعود بشر الحياة إلى رشْدهم، وتتدخل الطبيعة أحياناً في تثبيت حق، وإدانة ونفي من مارس أدواراً خلاف الفطرة وخلاف الإنسانية وخلاف قيمته، كمثقف له دور طليعي وحاسم لا يمكن أن يرتهن إلى ابتزاز أو إغراء، وفي الاثنين استدراج للخروج على تلك الفطرة والقيمة.
كأنّ مواقف كتلك تنطلق من انعدام ملامح للزمن والمرحلة، تماشياً مع انعدام قيمة حسّ وضمير مثل أولئك الوشاة. كأنه زمن يستدرج الذين أجّلوا خسّتهم لحين انهمار فرص وبروزها. كأنهم بذلك على تماسّ مع المؤقت، ورفد للوهم. كأنهم عوْن لمن لا أحد يجزم بأبدية غَلَبَته وسطوته في دنيا الناس.
إنها الفتن التي تستدرج قوماً وتستعصي على آخرين. الفتن التي لا تريد للحياة أن تكون منعّمة باستقرارها واستقرار أفرادها. الاستقرار في حدِّه الطبيعي الذي لا مبالغة فيه من دِعَة وتنْبلة تُفقد الإنسان إمكاناته وطاقاته.
مثل ذلك «المثقف» وفي اختزال شديد لأحوال طرأت عليه في «نِعَم» هي بمثابة «نِقم»، تبادره بالسؤال عمّا حدث واستجدّ من أثر جديد عليه: من أين لك هذا؟ يجيب: من الفتن!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3666 - الأربعاء 19 سبتمبر 2012م الموافق 03 ذي القعدة 1433هـ
لاحياة لمن تنادي
با اخ الجمري اليوم لم يتبقى لا كاتب عمود ولا مقدم برنامج حواري الاء ويشتم في الذي يختلف معه في الراي ويحاول وين يحصل على الغنيمه قبل لا يفوته القطار وعلى قول الاخوه المصريين الكل يابض