خلاصة القول؛ فإن أمر التحقيق في الجرائم دقيق جدّاً، إذ يقتضي إقامة توازن دائم بين الوسائل الرامية إلى المحافظة على المجتمع بالكشف عن الجرائم ومعاقبة مرتكبيها؛ وبين حقوق المواطنين في صيانة حريتهم وكرامتهم. وضمانة هذا التوازن تتوافر في الآتي:
- سن القوانين التي تحرم التعذيب وتجرمه، وقد ذكرنا مجموعة من تلك النصوص التي حرمت التعذيب وجرمته، ولا ننسى أن نشير في هذا الخصوص إلى نص المادة (208) من قانون العقوبات البحريني والتي تنص على أنه «يعاقب بالسجن كل موظف عام استعمل التعذيب أو القوة أو التهديد بنفسه أو بواسطة غيره مع متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجريمة أو على الإدلاء بأقوال أو معلومات في شأنها. وتكون العقوبة السجن المؤبد إذا أفضى استعمال التعذيب أو القوة إلى الموت».
وجريمة التعذيب، كأية جريمة يتطلب لقيامها عدد من العناصر، منها مادي وهو النشاط الإجرامي للفاعل والنتيجة التي استهدفها، وعلاقة السببية بين النشاط والنتيجة. وجانب معنوي، ويقصد به الصلة بين إرادة الجاني والجانب المادي لجريمته، وهو القصد الجنائي.
ويضيف المشرع عناصر أخرى في البنيان القانوني لجريمة التعذيب، فإن تخلف أحدها امتنع قيام الجريمة.
ومن العناصر الخاصة، كون الجاني موظفاً عموميّاً، وكون المجني عليه متهماً، فإذا لم يكن الجاني موظفاً عموميّاً، كنا أمام جريمة اعتداء على جسم الغير، وكذلك الحال إن لم يكن المجني عليه متهماً.
ويعتبر فاعلاً أصليّاً من قام بالتعذيب ومن أمر به، أو أذن به على رغم عدم اتصاله بفعل التعذيب ذاته، وخصوصاً إذا صدر الأمر والأذن أمام المجني عليه، فإن رؤيته أو سماعه الأمر بالتعذيب أو الأذن به، أكثر ترويعاً من التعذيب نفسه وأشد إرهاباً له، باعتبار أن التعذيب أو التهديد به إنما يقصد به حمل المتهم على الاعتراف بما نُسبَ إليه أثناء التحقيق معه. ورجل السلطة، في عدوانه على الأفراد، بتعذيبهم أو بتهديدهم أو إغرائهم، لحملهم على الاعتراف بما يريد، يدرك مدى سطوته المستندة إلى سلطته ويستثمر علاقة الخضوع من الأفراد تجاه السلطة، دون أن يملكوا حيال بطشه دفعاً؛ ولا منعاً وخصوصاً إذا كان المجتمع يعيش ثقافة الخوف من جانب الضحية وثقافة الافلات من العقاب من جانب الجلاد والجاني، لأن الجاني يستمد سلطة وظيفته وسطوتها أسوأ استثمار فيما ينطوي عليه سلوكه من اعتداءات على حقوق فردية ومصالح قانونية تبدأ بمصادرة حق الفرد في صيانة مكنوناتِ نفسه وفي سلامة جسمه وحياته، وحقه في الدفاع عن نفسه، وتصل إلى تضليل العدالة باعتراف كاذب قد ينزله القضاء منزل صدق، ثقة منه في حيدة الإدارة ونزاهتها.
والأمر بالتعذيب بطريق الترك أو الامتناع، هو أكثرُ الفروض وقوعاً في العمل، فإذا وقع التعذيب على المتهم لحمله على الاعتراف من موظف أمام رئيسه في العمل أو اتصل بعلم ذلك الرئيس، ولم يأمُر مرؤوسيه بالكفِّ عن تعذيب المعتقل؛ فإن الرئيس يكون هنا قد عبر عن إرادته بتعذيب المتهم لحمله على الاعتراف عُنوَةً، وذلك هو جوهر الأمر بالتعذيب المحرم شرعاً والمنهي عنه من قبل المشرع الدستوري والمواثيق العالمية والمعاقب عليه من قبل القوانين المحلية والدوليةِ بوصفه جناية عقوبتها السجن مدة طويلة، فضلاً عن العقوبات التبعية.
2 - إيجاد جهاز للشرطة القضائية واثق بمقدرته العلمية والفنية والبشرية وقادر على فرض وجوده مع احترام حقوق المواطنين، إذ تفتقر أجهزة الشرطة في الغالب إلى العناصر ذوي الثقافة العلمية العالية والتخصص، كما أنها - أي أجهزة الشرطة - تفتقر إلى المختبرات العلمية وإلى أدوات الاتصال السريع، وإلى التخطيط في مكافحة الجرائم والوقاية منها. فجهاز الشرطة الذي يعتمد على مقدرته الفنية في وقاية المجتمع من الإجرام وملاحقة المجرم لا يرى نفسه مضطرا إلى اللجوء سوى إلى الأساليب العلمية والقانونية للقيام بمهامه وتتبع آثار المجرم وجمع الأدلة بحقه. وأن تهيئة جهاز الشرطة ليكون على مستوى المسئولية يتطلب رفع ملكاته وتجهيزه بصورة فنية وتمكين العناصر الصالحة والمختصة من دخوله، فلكي تكون للشرطة فاعليتها وتجد المساندة من قبل المواطنين يجب أن تكون محترمة منهم، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا عن طريق الاحترام المتبادل، أي عندما يشعر المواطن أن الشرطي يحترمه ويسهر على أمنه وسلامته بكل جد وإخلاص ويجد لديه كل مساعدة ممكنة. عندئذ يبدأ المواطن باحترام الشرطي ومعاونته في إتمام رسالته.
- ضمان السماح بالاتصال بالسجناء أو الموقوفين، فكثيراً ما يقع التعذيب عندما يكونون محتجزين بمعزل عن العالم الخارجي وغير قادرين على الاتصال بمن يستطيع مساعدتهم أو معرفة ما يحدث لهم. ومن ثم يتعين الكف عن ممارسة احتجاز السجناء أو الموقوفين بمعزلٍ عن العالم الخارجي. وينبغي أن يضمن مثول جميع السجناء أمام هيئة قضائية مستقلة عقب احتجازهم، ودون إبطاء، والسماح للأقارب والمحامين والأطباء بحق الاتصال بالمحتجزين فوراً وبصفة دورية.
- عدم احتجاز المعتقلين في أماكن سرية، إذ يحدث التعذيب في الغالب في الأماكن السرية، وفي كثير من الحالات يعقب ذلك الإعلان عن «اختفاء الضحايا». ولذلك يجب أن يضمن عدم احتجاز السجناء أو الموقوفين إلا في أماكن احتجاز معترف بها رسمياً، وأن تُقدم على الفور معلومات دقيقة عن اعتقالهم وأماكن احتجازهم لأقاربهم ومحاميهم وللنيابة وللمحاكم. وينبغي توفير وسائل قضائية فعالة في جميع الأوقات يمكن من خلالها لأقارب السجناء ومحاميهم أن يعرفوا على الفور مكان احتجازهم والسلطة التي تحتجزهم وضمان سلامتهم.
- توفير الضمانات الكافية أثناء الاحتجاز والاستجواب، فيجب أن يُحاط جميعُ السجناء علماً بحقوقهم على الفور، ومنها حق التقدم بأي شكوى من معاملتهم والحق في أن يبت قاض، دون تأخير، في قانونية احتجازهم. ويجب أن يحقق القضاة في أي دليل على وقوع تعذيب وأن يوصوا النيابة العامة بملاحقة من وقع منه فعل التعذيب بالمعنى الواسع لهذا المصطلح وأن يأمروا بالإفراج عن السجين إذا كان احتجازه غير قانوني. وينبغي أن يحضر محام مع المحتجز خلال الاستجواب وألا يقتصر حضور المحامي مع المتهم على مرحلة المحاكمة كما يرى بعض الفقه التقليدي إذ قد تفوت على المتهم، بسبب عدم تمكينه من إحضار محاميه الذي اختاره أو وافق عليه، أمور لا يمكن تداركها بعد ذلك. كما ينبغي للحكومات أن تضمن توافق ظروف الاحتجاز مع المعايير الدولية لمعاملة السجناء. ويتعين أن تكون السلطة المسئولة عن الاحتجاز منفصلة عن السلطة المسئولة عن الاستجواب، وأن يقوم مفتشون مستقلون بزيارات دورية غير معلن عنها مسبقاً ودون قيود، لجميع أماكن الاحتجاز.
- وإلى جانب جهاز الشرطة القادر؛ لابد من وجود قضاة مستقلين أكفاء واثقين من أنفسهم ومن عملهم حريصين على جعل شخصيتهم وحكمتهم ومواطنيتهم خير حامٍ للمجتمع وللحرية الفردية.
- لابد من وجود رقابة على أداء جهاز الشرطة لعملهم والتزامهم بالقانون، فلا تكفي القوانين وحدها لمنع التعذيب للقضاء على ظاهرة تعذيب المتهمين. كما ينبغي، وعلى وجه السرعة، التحقيق في دعاوى التعذيب، وذلك بإجراء تحقيق نزيه وفعال في جميع شكاوى التعذيب، تتولاه هيئة مستقلة عن الجهات المتهمة بارتكاب التعذيب. كما ينبغي إعلان الوسائل والخطوات المتبعة في هذا التحقيق والنتائج التي يتمخض عنها. كما يجب وقف المسئولين المشتبه في ارتكابهم التعذيب عن القيام بواجبات عملهم خلال التحقيق. ويتعين توفير الحماية للمتظلمين، والشهود، وغيرهم من المعرضين للخطر، من أي ترهيب أو أعمال انتقامية قد يتعرضون لها. وإذا ما أظهرت التحقيقات مسئولية المشتبه في ارتكابهم لأعمال التعذيب؛ فلابد من تقديمهم إلى المحاكمة، وهذا المبدأ ينطبق أيّاً كان المكان الذي وقع فيه التعذيب وأيّاً كان أشخاص مرتكبيه أو وضعهم، وبغض النظر عن المكان الذي ارتكبت فيه جريمة التعذيب أو شخص الضحية، دون اعتبار للوقت الذي انقضى على ارتكاب الجريمة، إذ لا يجوز أن تسقط بالتقادم؛ لأنها جريمة خصها المشرع الدولي والوطني بمعالجة خاصة، نظرا لطبيعة وماهية تلك الجريمة وبعدها الإنساني الذي شكل تهديداً للأمن الاجتماعي؛ مما اقتضى أن تكون هذه الجريمة جناية دائماً وخارجة عن قاعدة السقوط بالتقادم لأنها. وكما صرح كوفي عنان بأن التعذيب وصمة عار على جبين الإنسانية .
وختاما، لا يفوتني أن أنوه إلى ما ورد بالفقرة (1230) من تقرير بسيوني التي تنص على: «توضح المعلومات التي تم الحصول عليها من مصادر مختلفة، ولاسيما أثناء المقابلات مع الأشخاص الذي ادعوا أنهم ضحايا لسوء المعاملة والأشكال الأخرى من الإساءة البدينة والنفسية أثناء وجودهم في مراكز التوقيف التابعة للدولة، أنه كان هناك أنماط معينة من السلوك التي كانت تنتهجها الأجهزة الحكومية، ولم تكن هذه الأنماط موحدة باستثناء ما يتعلق بسوء المعاملة مع فئات معينة من الموقوفين بما في ذلك بعض أفراد الطاقم الطبي الذين ألقي القبض عليهم بتهم مرتبطة بأحداث مجمع السلمانية الطبي والشخصيات السياسية الأربعة عشر الذين كانوا موقوفين في سجن القرين. وكان الغرض في الكثير من هذه الحالات هو الحصول على إفادات أو اعترافات تجرم أولئك الأشخاص المقبوض عليهم، وفي حالات أخرى، كان الغرض المقصود من الحصول على إفادات من بعض هؤلاء الأشخاص هو استخدامها ضد أشخاص آخرين ينتمون إلى الجماعة نفسها».
وهو توثيق لتعذيب يحدث بشكلٍ منهجي ولايسع أحدٌ الزعم بأنه سلوكٌ فرديٌ؛ لأن التقرير يُعتبر مستنداً رسميّاً لكونه مُعدّاً من جهة مكلفة بخدمة عامة من قبل السلطة المختصة قانوناً، والكلُّ يعلم أن لجنة بسيوني شُكِّلتْ بأمر ملكيٍ وقدمت تقريرها إلى ملك البلاد الّذي قَبِله بلا تحفظٍ، بل وأمر بتنفيذ محتوياته وشكل لجاناً عُليا من أجل ذلك؛ فإن أي أنشطة أخرى من أي نوع كانت ومن أية جهة صدرت، وتحت أي مسمى أو مبرر تمت لا يمكن أن تكون بمنجاة من المُلاحقة ومن ثم العقاب، وعليه؛ فإن حق كل من تضرر من إجراءات أو تصرفات جاءت بالمخالفة للنُّصوص الدستورية والقانونية والمواثيق الدولية سالفة الذكر، في مقاضاة من خالف الدستور والقانون والنهج العالمي الصريح، وإن لذلك المضرور حقّاً مكفولاً قانوناً، ولا يسقُطُ بالتقادم ، ولا يشمله أي عفو وإن أي تفسير آخر يعد ليّاً للنصوص تحت ستار التفسير وهو ما لا يملكه أحد.
والله من وراء القصد...
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الشملاوي"العدد 3665 - الثلثاء 18 سبتمبر 2012م الموافق 02 ذي القعدة 1433هـ
رأس الحكمة مخافة الله (ابو الحسن)
وتعقيبا على الحكمة اعلاه يقول مولانا الامام علي عليه السلام : من سل سيف البغي قتل به . ولنا في التاريخ القديم والحديث والبائد منه عبر كبر . وبالكذب والنظليل والاعلام الفاسد لا تبنى الاوطان ولا الامان ، وعما قريب يسفر الصبح بوجه يعظ الظالم فيه يداه ، وانى له استرجاع ما فقده.
رفض هذا البند يعني هناك نوايا مبيتة
ممكن توضح لنا ماذا يعني عدم قبول النظام بالتوقيع على هذا البند
ما معنى ان يطرح بند والدولة لا توافق ولا تصدق عليه
التعذيب لماذا ترفض الدولة الالتزام بهذا البند
أنا على يقين ان الحكومة ماضية بدون تردد في طريقها نحو مزيد من هذا الامر لذلك لم توافق عليه
هذا أهم شيء ما رفضته السلطة = دليل مبيت على عدم حسن النية
لو كان في وارد ان تلج في الحكم الديمقراطي السليم لما رفضت هذا البند. وهذا دليل على ان النوايا موجودة لاستخدام التعذيب حاليا ومستقبلا كما استخدم سابقا.
وهو دليل من ضمن الادلة التي تحملها المعارضة بجنيف على وجود سياسة تعذيب ممنهج ومبرمج وقد صرح بسيوني بذلك
من قال لك فيه تعذيب؟
وليس لدينا تعذيب معتقلين يا عبدالله الشملاوي