العدد 3663 - الأحد 16 سبتمبر 2012م الموافق 29 شوال 1433هـ

حدود الرأي... ومعنى الخيانة في الدولة الفاشلة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الأنظمة الفاشلة، تُنتِج فهمها المتخلف للسياسة أيضاً. فعندما لا يكتمل مشروع الدولة، لا يكتمل معه مشروع الوعي السياسي بالضرورة. لذا، فإننا نرى أن قاموس هذه الدول يصبح مرتبكاً وغير مفهوم. فالحرية فيها ليس لها تعريف محدَّد، وكذلك الحال بالنسبة للسياسة والاقتصاد والثقافة والحقوق والمواطنة والولاء والخيانة، فكلها عناوين ليس لها تعريف مُحدَّد في ذلك الشكل من الدول. والسبب يعود إلى أن تلك الدول هي دول ارتجال، ودولٌ مُوغِلة في الفردانية والأوليغارشية، فالأمور فيها تتم فهمها بشكل معقوف، ليصبح القتل والاعتقال وعدم المساواة، أمراً عادياً ومشروعاً، حفاظاً على الأمن، بالضبط مثلما فَعَلَت النازية في ألمانيا، والفاشية الموسولينية في إيطاليا.

لا يعتقد أحدٌ بأن الدول المبنيَّة بناءً صحيحاً، هي التي تقدم خدمات للمواطنين، وتمنحهم رواتب نهاية كل شهر فقط، فهذا الأمر لا يتعدى الجانب الريعي للدولة. فما هو أهم يتعلق بما يُمكن أن نسمِّيه بالعقدة الشرعية للدول، والقائمة على العلاقة العضوية للفرد بالدولة عبر انتمائه إليها مادياً ومعنوياً، من خلال تحقق مسئوليته تجاهها، وفي نفس الوقت قدرته (عبر قبول الدولة الطوعي) على مراقبة أدائها، فيستطيع عبر ممثليه في البرلمان أن يضع فيتو هنا أو هناك. هذا الأمر عندما يتحقق، سيجلب معه كلَّ التزام أخلاقي من الدولة تجاه موطنيها، سواءً أكَانَ خَدَميَّاً أم حقوقياً أم غيره.

عندما تفقد الدول هذا المنسوب من العلاقة والمراقبة، ما بين الحكم والناس، يصبح كلُّ شيء قائماً على الارتجال، والفهم الفردي لا الدستوري لفضاء الدولة العام. وفي الوقت نفسه، تصبح المناهضة لهكذا حال أيضاً بذات العبثيَّة في حالاتها القصوى. فترى حرية الرأي تتخطّى حدود الضبط، كون الذي تهجِيه تلك الحرية، يمارس ذات الانفلات، وبالتالي، لا هو يملك حق إدانتهم لعبثيَّته، ولا هم يملكون القدرة على كبح الجموح الجماهيري لديهم ولدى غيرهم عندما ينفلت.

كما أن الدولة تصبح مثقوبة القاع، أمام نفوذ المشاريع السياسية الخارجية، وخصوصاً تلك التي تتمتع بالزخم الثوري والعاطفي، كونها تلامس محركات التغيير. وربما وجدنا في حاضرنا ما يشير إلى ذلك.

كان جيوسيبي مازيني (1805 - 1872) إيطالياً، لكنه أثر في الكثير من البلدان الأوروبية التي كانت ناقصة البناء، رجعيَّة التوجُّه، تعيش على الإقطاع وغياب العدالة، بل هو الذي أسَّسَ أحزاب الفتاة الرائجة في تلك الفترة، فكان له نفوذٌ في حزب إيطاليا الفتاة، وبولندا الفتاة، وألمانيا الفتاة، وفرنسا الفتاة، وسويسرا الفتاة، وكذلك الحال بالنسبة لنفوذ السياسي البولندي ميكييفيتش.

حَصَلَ ذلك، لأن مشروع الدولة الديمقراطية كان لايزال رجراجاً في العديد من دول أوروبا، ولم يتماسك بعد. أكثر من ذلك، فقد تحالف أمراء الدول الألمانية الجنوبية الغربية: بادن وفورتنبيرغ وبافاريا، مع فرنسا ضد النمسا، الأقرب إليهم.

كما رحَّب اليعاقبة الألمان بالغزو الفرنسي في مينز والجنوب الغربي، وكذلك بالنسبة لروسيا وبروسيا. أما اليعقوبية في إيطاليا، أو بالأحرى الساليسيتية الإيطالية فقد تحالفت مع الجيش الفرنسي في معاركه، وكذلك الحال بالنسبة للتيار اليعقوبي في هولندا وسويسرا وجزء من إيطاليا.

ورغم أن الثورة الايرلندية كانت لها أسبابها للتحالف مع الغزو الفرنسي بين العاميْن 1797 و1798 ضد انكلترا، كَوْن العداء العرقي والبروتستانتي/الكاثوليكي هو الدافع، إلاَّ أنها كانت مثل غيرها من الدول الأوروبية، في مسألة غياب نموذج الدولة الديمقراطية الحاضنة، الأمر الذي دفعها للتحالف مع العدو الفرنسي باعتباره مخلصاً. وربما انخرط آخرون في القتال معه، كما حصل بالنسبة لجيش نابليون المُسيَّر لقتال روسيا، حيث كان 300 ألف محارب فيه من أصل 700 ألف محارب ليسوا فرنسيين.

(للاستزادة، يمكن مراجعة كتاب «عصر الثورة» لإريك هوبزباوم).

وكانت الأنظمة الرَّجعيَّة في أوروبا، تستثير مشاعر مواليها حول ذلك المشهد، وتدفعهم لوصفه بالخيانة للبلد، لتستخدمهم في التصدي له، إلاَّ أن خطابها كان خشبياً وغير مسموع، كونه غير مُغطَّى بشرعية العدالة المفقودة أصلاً لدى تلك الأنظمة.

وللعلم، فقد سَعَت تلك الأنظمة لتحريك التغاير الطائفي، من أجل حشد ما يُمكن حشده لوقف مثل هذا المد الثوري العابر للحدود، إلاَّ أنها لم تستطع.

لكن، وعندما استقرَّت الأوضاع السياسية في أوروبا، وبدأت تظهر ملامح الدولة الحاضنة، ذات الشعور القومي، التي حوَّلت الشعوب من شعوب رعوية تابعة بالقوة، ولا تنال حقوقها الطبيعية، إلى شعوب لها حضور في الحكم والرأي والمشورة، مع تشذيب لشكل الدولة وتوزيع عادل للثروة، وقيام المؤسسات الدستورية غير المجوَّفة، التي تستطيع أن تقرَّر وتأمر، مع تطوير ملفت للقضاء والتشريع، فقد بدأت الشعوب تستكين لفرو الدولة التي تعيش في كنفها. وبدأت هناك عملية انفصال آلي، ما بين أحزاب الداخل وأنشطة التحرُّر الخارجي، وبالتحديد مع القوى الدولية الثورية في أوروبا. حينها أصبح الولاء له طعم آخر، وأصبحت الحرية مختلفة ومنسوبها مختلفاً أيضاً، وباتت تهمة الخيانة أكثر وضوحاً. وأصبح للفعل السياسي، وتطبيق الجزاءات، وتقرير المخالفات لخصوم الدولة له كامل الشرعية.

في عصرنا الحاضر، بُحَّ صوت القذافي، وهو يقول، أن هؤلاء المعارضين، ما هم إلاَّ جرذاناً، لكن لم يسمع له أحد، إلى أن حَكَمَ هؤلاء المعارضون البلد. واستهزأ مبارك من معارضيه، وقال كلمته المشهورة: خلوهم يتسَلُّوا!، «إبَّان البرلمان الموازي» ثم جاء أولئك، وهم يحكمون مِصر اليوم.

حَصَلَ ذلك في تونس واليمن أيضاً، وسيحصل في سورية أيضاً... لأن القضية متعلقة أساساً بموضوع قيام الدولة بشكلها الصحيح.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3663 - الأحد 16 سبتمبر 2012م الموافق 29 شوال 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 14 | 3:58 م

      اشكر الكاتب

      فعلا كل يغني على ليلاه .. الكاتب المحترم ذكر سرد تاريخي عسى يستلهم منه العبر الحاكم والمحكوم ،

    • زائر 13 | 4:18 م

      نقطة بحاجة للتوضيح

      وهي التى تحتاج توضيح العبارة التى تقول( امام نفوذ المشاريع السياسية الخارجية) استاذ عن نفسي اقول انك تقر بوجود تدخل خارجي في البحرين بطريقة مخفية خوفاً من ردت فعل القراء و المعارضة .. الدول الاجنبة كل شئ عندهم مباح فمن الاجحاف مقارنتها بالدول العربية و الاسلامية التي لديها تحفظات

    • زائر 12 | 4:11 ص

      علي نور

      الكاتب المحترم .. وكانك تتجه في مقالك اتجاه منحازوخطير فالمقال فيه دعوة صريحة واضحة وضوح الشمس لتبني وشرعنة العمل المسلح الذي تتبناه الثورة السورية ضد النطام السوري ، اي بدعوي تحالف الساليسيتية الإيطالية مع الجيش الفرنسي ضد بلدهم ، او تحالف الايرلنديين مع الفرنسيين ضد بلدهم ، لا باس باتفاق المعارضة المسلحة مع الامريكان والصهاينة على تدمير بلدهم .. ماهدا الهراء يا استاذ محمد .. تعفف عن هذه المقالات التي لاتخدم تخدم سوي عدو، ولعل في دعوة البابا لوقف تمرير السلاح ما يكفيك.

    • زائر 9 | 4:04 ص

      علي نور

      الكاتب المحترم .. وكانك تتجه في مقالك اتجاه منحازوخطير فالمقال فيه دعوة صريحة واضحة وضوح الشمس لتبني وشرعنة العمل المسلح الذي تتبناه الثورة السورية ضد النطام السوري ، اي بدعوي تحالف الساليسيتية الإيطالية مع الجيش الفرنسي ضد بلدهم ، او تحالف الايرلنديين مع الفرنسيين ضد بلدهم ، لا باس باتفاق المعارضة المسلحة مع الامريكان والصهاينة على تدمير بلدهم .. ماهدا الهراء يا استاذ محمد .. تعفف عن هذه المقالات التي لاتخدم تخدم سوي عدو، ولعل في دعوة البابا لوقف تمرير السلاح ما يكفيك.

    • زائر 8 | 3:53 ص

      علي نور

      الكاتب المحترم .. وكانك تتجه في مقالك اتجاه منحازوخطير فالمقال فيه دعوة صريحة واضحة وضوح الشمس لتبني وشرعنة العمل المسلح الذي تتبناه الثورة السورية ضد النطام السوري ، اي بدعوي تحالف الساليسيتية الإيطالية مع الجيش الفرنسي ضد بلدهم ، او تحالف الايرلنديين مع الفرنسيين ضد بلدهم ، لا باس باتفاق المعارضة المسلحة مع الامريكان والصهاينة على تدمير بلدهم .. ماهدا الكلام يا استاذ محمد .. تعفف عن هذه المقالات التي لاتخدم تخدم سوي عدو، ولعل في دعوة البابا لوقف تمرير السلاح ما يكفيك.

    • زائر 7 | 3:50 ص

      الكفر والإيمان

      أليس من التناقض والطائفية عند البعض أن يحلل استعانة الليبيين بالأمريكي والفرنسي ويحرمه على العراقيين؟ صدام ديكتاتور والقذافي ديكتاتور إذا ما المشكلة في ذلك؟ في العراق تسمونه احتلال وفي ليبيا تسمونه ثورة واليوم نفس الشيء في سوريا!!!!!!!! هذا هو العقل العربي . إما أن تقولوا احتلال على طول الخط أو ثورة على طول الخط . يؤمنون ببعض الكتاب وبكفرون ببعض

    • زائر 6 | 3:40 ص

      تساؤل للكاتب

      ماذا لو سمعت أحدا ينادي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا ويطالب بفرض حظر جوي واستخدام القوة ضد بلاده فهل تسمي ذلك وطنية أم خاينة كما هو في سوريا وقبله في ليبيا؟؟!! اليوم السي آي أيه تنشط في سوريا وعلى الحدود وتل أبيب تستمتع بهذا المشهد فماذا نسميه؟؟؟؟؟؟؟؟؟

    • زائر 4 | 1:55 ص

      مفهوم الخيانة

      دعني أقول لك - عندما يقول أحد قادة الحراك الثوري بإن الشعب مستعد للتضحية بإمر فلان من الناس من دولة مجاورة ولا يستنكره أحد من طائفة معينة, فذلك خيانة. عندما يهدد جاهل 6 دول بعينها بالإجتياح لحماية طائفة معينة ولا تستنكر تلك الطائفة, فهذه خيانة. عندما يقول سفير لهم إن هذه الدولة المستقلة وعضو في الأمم المتحدة هي محافظة عندهم ولا تستنكر طائفة معينة فهذه خيانة. عندما تستنجد طائفة بالمجتمع الدولي على دولتها, فهذه خيانة . فمن خون من ؟

    • زائر 3 | 12:59 ص

      ميثم

      كالعادة مادة غنية ورائعة... سلمت يداك أخي محمد

    • زائر 2 | 12:05 ص

      لب الكلام

      وكانت الأنظمة الرَّجعيَّة في أوروبا، تستثير مشاعر مواليها حول ذلك المشهد، وتدفعهم لوصفه بالخيانة للبلد، لتستخدمهم في التصدي له، إلاَّ أن خطابها كان خشبياً وغير مسموع، كونه غير مُغطَّى بشرعية العدالة المفقودة أصلاً لدى تلك الأنظمة.

    • زائر 1 | 11:57 م

      شكرا

      احسنت يا استاذ محمد على هذا المقال الذي ينم عن سعة اطلاع وثقافة ووعي وشكرا للوسط على ما تقدمه من مادة تثري الوعي

اقرأ ايضاً