«عندما يكون سقفك السماء وفراشك الأرض وكل من حولك أصدقاؤك فأنت في دوار اللؤلؤ»... أحد المعتصمين.
مضى 18 شهراً منذ أن شهد العالم العربي موجةً لا سابق لها من الثورات والانتفاضات والاحتجاجات التي انطلقت من تونس وأطاحت بحكم الرئيس بن علي في 14 يناير/ كانون الثاني 2011، وبعدها اجتاحت العالم العربي من المغرب حتى ضفاف الخليج.
لقد أطاحت هذه الموجة بالأنظمة الحاكمة في مصر وتونس وليبيا واليمن، فيما سورية على الطريق، ولاتزال تختمر في بلدان عربية أخرى. وتأثرت دول مجلس التعاون الخليجي بهذه الموجة بدرجات متفاوتة وتعبيرات مختلفة.
هناك عدة أسباب كامنة وراء هذه الاحتجاجات في دول مجلس التعاون الخليجي أهمها:
- إساءة استخدام سلطتي الحكم والتملك واندماجهما في دائرة ضيقة من النخبة على حساب غالبية السكان.
- تمركز النخبة في أسر وأقارب وشركاء سياسيين وماليين، وبالتالي تقلص قاعدة النظام والطبقة الوسطى.
- تهميش مؤسسات الدولة لصالح شبكات وتنظيمات غير رسمية تتمحور حول دائرة النخبة الضيقة.
- الانتهاكات المستمرة للدستور والقوانين والأنظمة ومؤسسات الدولة وحتى مؤسسات القطاع الخاص المالية والاجتماعية والدينية.
- استيراد العمالة الأجنبية وخصوصاً الآسيوية بكثافة والتي حوّلت المواطنين إلى أقلية في اغلب دول المجلس.
هذه وغيرها أسهمت في إضعاف قدرة النخب الحاكمة على تقديم الامتيازات المعهودة في ظل نظام الدولة الريعية التي تحوّلت إلى دولة غنائمية. وكان لافتاً أن الموجة الثورية اندلعت بحادثةٍ تجسّد الأزمة التي يعاني منها العالم العربي. فقد اضطر محمد البوعزيزي، الخريج الجامعي العاطل عن العمل، إلى العمل كبائع خضراوات على عربة متنقلة في بلدية بوزيد التونسية. وأشعل البوعزيزي النار في نفسه بعد أن جرت مصادرة عربته وأهين على يد شرطة البلدية، وتوفي بعدها بأيام، مشعلاً احتجاجات لا سابق لها في تونس تحوّلت إلى ثورةٍ شعبية.
إن الصفعة التي تلقاها البوعزيزي من قبل شرطة البلدية، هي صفعة مادية أو معنوية يتلقاها ملايين المواطنين العرب كل يوم. ومعاناته تعكس معاناة غالبية المواطنين العرب، خصوصاً الشباب الذين يعانون من البطالة والتهميش والافتقار إلى الكرامة والحرية. وعلى رغم أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تتفاوت بين بلد عربي وآخر، فإن القاسم المشترك بينها تمثل في انتشار شعور عام بعدم إمكانية إصلاح الأنظمة الحاكمة في تلك الدول.
إن الثورة العربية الجديدة خلافاً لسابقاتها، ليست موجهة ضد السيطرة الأجنبية، وإنما هي موجهة بالأساس ضد أنظمة الداخل. والعامل السياسي في هذه الانتفاضات لا يقل أهمية عن العامل الاقتصادي، وهكذا كان افتقاد العدالة قوةً محرّكةً وراء الربيع العربي.
إن النقطة المحورية في هذه الانتفاضات هو الشعور باليأس من التغيير وانسداد الأفق أمام الشعوب للخروج من المستنقع الذي هي فيه منذ عقود. وقد كشفت عن ذلك تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول التنمية الإنسانية في العالم العربي، وشخّصته في نقص الحريات والعدالة والمشاركة السياسية، إضافة إلى أمراض ومثالب النظام العربي الأخرى.
إن الإصلاح الديمقراطي هو في صميم سعي المواطنين للإصلاح طوال عقود، وهذا يشمل حركات الإصلاح من جميع الأطياف الإسلامية والعلمانية والديمقراطية في جميع الأقطار. وهذا يشمل الإصلاح الدستوري والتشريعي والمؤسساتي في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية وغيرها.
إن غياب الديمقراطية والتمثيل الشعبي والمحاسبة والشفافية وتقييد مؤسسات المجتمع والفساد المستشري وسرقة الممتلكات والأراضي العامة هي في قلب أسباب المطالبة بالإصلاح.
مجلس التعاون الخصوصيات والمشتركات
تأثرت دول مجلس التعاون الخليجي بهذه الموجة بدرجات متفاوتة، وكان أبرزها في البحرين وعمان والكويت، وهي أقل وضوحاً في الدول الأخرى. وتوصف هذه الدول بأنها دول ريعية، محظوظة بثروة نفطية هائلة وسكان قليلين، وبالتالي ضمان مستوى مرتفع للمعيشة لمواطنيهم، والحصول على العديد من الخدمات الأساسية المجانية.
ويعتبر المواطنون أقليةًً في أربع من دول الخليج (الكويت والبحرين وقطر والإمارات) بما يتراوح ما بين 15 في المئة - 45 في المئة، وأغلبية نسبية في السعودية وعُمان. وتقدّم هذه الامتيازات للمواطنين مقابل قبولهم بالحد من حقوقهم السياسية والمشاركة في شئون الدولة.
وعلى امتداد العقود الماضية، تشهد دول الخليج عملية تحوّل من الدولة الريعية إلى الدولة الغنائمية، حيث إنه على رغم تزايد العوائد المالية للدولة، فإن الامتيازات المقدمة للمواطنين في تراجع، ولم يعد الحصول عليها مضموناً. فالقوى الناقذة لم تعد تكتفي بما تحصل عليه من عوائد النفط، لكنها انغمست في استملاك الأراضي لتطويرها بمشاركة بنوك التمويل كمشاريع عقارية حديثة هائلة والهيمنة على قطاع الأعمال.
ولقد تحولت المشاركة في السلطة مع المجموعات الأخرى للسكان إلى احتكار للقرارات الحيوية للدولة. ويبدو أن الصيغة السابقة غير الرسمية للشورى كانت تضمن مشاركة في السلطة للعائلات الأخرى أفضل من الأشكال الحالية لتمثيل ومشاركة السكان من خلال البرلمانات ومجالس الشورى محدودة الصلاحية أصلاً.
يعود نضال شعوب الخليج من أجل المشاركة السياسية في ظل الحكم البريطاني إلى العام 1938، الذي شهد ما يُعرف بحركة المجالس في الكويت والبحرين ودبي. وقد كان الإنجليز متواطئين مع القوى المحلية لإجهاض الحركات في البلدان الثلاث.
وعلى رغم أن الاستقلال جلب معه وعوداً بالمشاركة الشعبية وتجربة الحياة البرلمانية في الكويت أولاً ثم في البحرين، فإن المشاركة والتمثيل الشعبي في جميع بلدان المجلس قاصرةٌ عن الطموحات والوعى الشعبي. وباستثناء الكويت حيث السلطة التشريعية بيد مجلس الأمة ذات الأغلبية من النواب المنتخبين إلى جانب الوزراء الأعضاء حكماً، فإن المجلس الوطني في الإمارات شكّل بنسبة 50 في المئة بالتعيين و50 في المئة شبه منتخبين، فيما تستند الدول الأخرى أما إلى نظام المجلسين كما في البحرين وعمان أو مجلس شورى معين كما في السعودية فيما تفتقد قطر لأي مجلس.
وبشكل عام هناك إجماعٌ بين مواطني دول التعاون على أن هذه المجالس لا تمثلهم حقيقة. وحتى في الكويت حيث أقدم تجربة برلمانية وأكثرها استمراراً وتقدماً، فإن الكويتيين مقتنعون بالحاجة لإصلاحات شاملة للحياة السياسية، بما في ذلك النظام الانتخابي لمجلس الأمة وتركيبته وصلاحياته.
وعلى رغم التقدم الشامل لدول مجلس التعاون وشعوبها في حقول الاقتصاد والتعليم والمدنية والوعى وغيرها، فإن التنمية المجتمعية قد كبحت بشدة. وباستثناء البحرين حيث صرحت مع قيود كثيرة للجمعيات السياسية والكويت حيث التنظيمات السياسية كأمر واقع ضمن قيود مشددة، فإن باقي دول المجلس تحرم وتمنع التنظيمات السياسية والنشاط السياسي المفتوح. كما أن الاتحادات العمالية مقيّدةٌ كثيراً، فيما تخضع منظمات المجتمع المدني (جمعيات أهلية وخيرية وأندية) إلى رقابة حكومية مشددة.
إن الفصل التام المفروض على اختلاط الجنسين في بعض دول المجلس هو التعبير الأقوى في التمييز ضد المرأة، وإن كان بدرجات متفاوتة، أما تهميش الشباب فهو محصلة سلوك المجتمع والدولة، فالشباب الذين يمثلون أغلبية مجتمعات الخليج يتملكهم شعور متزايد بالاغتراب والتهميش في مجتمع تقليدي ودولة تقليدية.
إن الفجوة بين التطور للمجتمع الخليجي وجمود النظام السياسي تزداد مع الوقت، كما أن الفجوة بين درجة الوعي والحرمان من الحقوق الأساسية تزداد اتساعاً أيضاً.
جرى جدل كبير حول العامل المستجد، وهو تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات (ICT) والتمكين السايبري (Cyber) للشباب العربي، والذي شكل عاملاً مهماً لإثارة واستدامة الربيع العربي. وهذا صحيحٌ مع شباب الخليج أيضاً الذين يُعتبرون الأكثر استخداماً لهذه التكنولوجيا في العالم العربي.
شهد العقد الماضي استخداماً متزايداً للنشطاء السياسيين والحقوقيين خصوصاً الشباب منهم، للعالم الافتراضي وأدواته، للتغلب على مصادرة الفضاء العام من قبل الدولة والقوى المحافظة التقليدية، من أجل الترويج لقضاياهم وإسماع صوتهم وطرح آرائهم وتنظيم أنفسهم وتعبئة المناصرين.
ومن هنا فإن السعي والإلحاح على الحقوق السياسية والاعتراف بهم كمواطنين وليس رعايا، هو الحافز الأساسي لتفاعل مواطني المجلس مع موجة الربيع العربي المنطلقة من تونس. وقد كان الشباب الطليعة والعمود الفقري للحركة من أجل التغيير.
يجادل البعض أن الأنظمة الخليجية تشهد إصلاحات بطيئة ولكن مستمرة والتي أحبطت التغيير الجذري بما في ذلك الثورات والانقلابات العسكرية. لكن ذلك لا ينفى أن تطلعات الناس من أجل إصلاح جذري قد تم إحباطه. لذا فهل بإمكان دول المجلس أن تنجوا من موجات الربيع العربي الحالية؟ هذا ما ستركز عليه هذه الورقة بتفحص أبعاد الربيع العربي وتأثيره على إمكانية الإصلاح الديمقراطي في دول المجلس. (يتبع).
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 3659 - الأربعاء 12 سبتمبر 2012م الموافق 25 شوال 1433هـ