تظلّم رجل إلى المأمون العباسي (عبدالله المأمون بن هارون الرشيد. ولد العام 170هـ في الليلة التي مات فيها الهادي واستخلف أبوه وتوفي العام 218هـ. فترة الخلافة بالهجري: 198 - 218. فترة الخلافة بالميلادي: 813 - 833. أمه من الفرس البرامكة اسمها مراجل ماتت في نفاسها به)، من عامل له فقال: «يا أمير المؤمنين، ما ترك لي فضّة إلا فضّها، ولا ذهباً إلا ذهب به، ولا غَلّة إلا غَلّها، ولا ضيْعة إلا أضاعها، ولا عرْضاً إلا عَرَض له، ولا ماشية إلا امتشّها، ولا جليلاً إلا أجلاه، ولا دقيقاً إلا دقّه».
ماذا يعني أن تكون فصيحاً؟ ماذا يعني أن تُمرّر رسالة موجعة عبر فصاحة وبلاغة؟ ثم ماذا يعني أساساً أن تلجأ إلى ذلك؟ هل لأن الأمور في المناخ العام ضمن حدودها وأحوالها تحول دون مباشرتك بالجأر بالشكوى وتسمية الخلل في حدوده الظاهرة والمباشرة؟ هل تستقيم الحياة بهكذا لجوء من حيث الأسباب والدوافع والنتائج؟ أم أن أوضاعاً على الضدّ تدفعك دفعاً وتأخذ بك إلى حيث المكْر الجميل والمبهر؟ هل الفصاحة الملغّمة بالمكْر والرسائل تؤتي أكلها ونتائجها في ظل اختلاط الحابل بالنابل وشيوع الجهل وانعدام الرؤية وانهيار المقاييس؟ وعودة إلى محاولة الحفر في عنوان المقال. ما الفصاحة لغة واصطلاحاً؟ الفصاحة، الظهور والبيان، ومنها أفصح اللبن إذا انجلت رغوته، وفصح فهو فصيح قال الشاعر: وتحت الرغوة اللبن الفصيح. ويقال أفصح الصبح إذا بدا ضوؤه، وأفصح كل شيء إذا وضح. قال حسان بن ثابت: ودنا الفصح فالولائد ينظمن سراعا أكلة المرجان؛ كأن تلغيم قيمة أو رسالة في فصاحة لا يعدو كونه تصريحاً بها في صورة وهيئة تجد الوطء الأخف عند مُستقبِلها. كأنها بذلك تعمد وتختار وتصطفي من تجد أنه عارف متمكّن قادر على استقبال شفراتها ومؤداها.
وعودة إلى عنوان المقال للمرة الثانية بما احتواه أقف عند التلغيم ومصادره، لغم - لَغَمَ، فعل: ثلاثي لازم متعد. لَغَمْتُ، ألغَمُ، اِلغَمْ، مصدر لَغْمٌ.»لَغَمَ الرجلُ»: أَخبرَ صَاحبه بِشَيءٍ لا عن يقين أو ثقَة.
«لَغَم المتحدثُ»: تَكلم بِكَلام خَفِي.
«لَغَمَ الحدود أو البحر»: لَغمَها، أَخفَى فيه الألغامَ «لغَّم الجيش حدود البلاد»: لغَمَهَا، أخفَى في أراضيها الأَلغام.
وهو مؤدى أن الكلام لا ينبسط أو يأخذ مداه من دون لجوء إلى ما يبسطه ويمنحه مدى من قبول وفي ذلك خلل يرتبط بالذي يستقبل فحوى وقيمة ومراد الرسالة. المستقبِل لها ضمن أوضاع وظروف تتطلّب تلغيماً وتورية.
ثمة تناقض وانكشاف بين الفصاحة من الإظهار والبيان وحسن التقديم؛ وبين التلغيم بما يتضمنه من معاني الإخفاء والدسّ والمواراة والخَتَل والرصْد بشكل متقن وغير السهل في انكشافه وسفوره.
اللغم يأتي في صورة وهيئة إغراء. في هيئة الالتفات إلى تفاصيلها الباطنة يبدو عصياً ومحالاً في كثير من أوجهه وصوره والهيئات التي يبدو عليها. الفصاحة بقدر اكتنازها بالمبهر والصادم؛ إلا أنها لا تخلو من بداهة وتقريب وتناول ما هو على تماس مع من توجّه إليهم أو أطراف استقبالها.
وفي عودة ثالثة إلى مكوّن عنوان المقال في طرفه الثالث: السياسة، وصولاً إلى البسيط من اشتقاقها ومعناها «السياسة لغة من مصدر على فِعالة، كما أشار ابن سِيده، قال: وساس الأمر سِياسة. وقبله الصاحب بن عبّاد: والسياسة فعل السائس، والوالي يسوس رعيته، وسُوِّس فلانٌ أمر بني فلان؛ أي: كُلِّف سياستهم. وهي مأخوذة من الفعل ساس، أو هو مأخوذ منها، على خلاف بين النحْويين، ومضارع الفعل «يسوس».
لكن يحدث أن يذهب أصحاب السياسة أو من يسوسون شئون الناس مذاهب تنحرف بهم إلى ما يدفع بهم إلى الانحراف واتخاذ طرق يرون فيها خلاصهم حين يتبدّى لهم سوء وطرق من يسوس. مرة بالخروج الصريح الفصيح ومرة بالمناورة ومرة بتلغيم العلاقات أو تعليقها كيفما تطلّبت المرحلة واشترطت بحسب الظروف وبحسب ما يمكن أن يتم اجتيازه واعتباره كوّة في طريق موصدة لا تؤدي إلى منتهى أو هدف.
يلوّح كثيرون بأسئلتهم: هل يحدث كل ذلك من توليد فصاحة أو هكذا تأتي بمحض العفوية وطاقة وإمكانات صاحبها، وانحيازاً إلى تلغيمها عبر تمرير صور وشواهد من المعطل من الحقوق وانتهاب كرامات الناس ومصادرة أرزاقهم وحيواتهم وقيمتهم؟ هل يحدث ذلك في ظل وضوح العلاقة بين أطراف تمسك بكل شئون الأمة وغير شئونها أيضاً وتتجاوز ذلك إلى التفاصيل البعيدة عن دورها؟ هل هذا العناء الطويل في ارتباك مثل تلك العلاقة سيؤدي إلى عافية الحياة وصحة مناخها وصحة علاقات أطرافها ومكوناتها بهكذا لجوء وبما يبعث على مثل ذلك اللجوء إلى تلغيم خطاب كي يصل؟ وفي الأدب المزدان بالحلم حكاية أخرى: «سئل الأحنف بن قيس عن الحلم ما هو؟ فقال: هو الذل مع الصبر. وكان يقول إذا عجب الناس من حلمه: إني لأجد ما تجدون، ولكني صبور. وكان يقول: وجدت الحلم أنصر لي من الرجال. وكان يقول: ما تعلمت الحلم إلا من قيس بن عاصم المنقري، لأنه قَتَلَ ابن أخ له بعضَ بنيه فأتي بالقاتل مكتوفاً يقاد إليه، فقال: «ذعرتم الفتى، ثم أقبل على الفتى فقال: يا بني، بئس ما صنعت: نقصت عددك وأوهنت عضدك وأشمتَّ عدوك وأسأت بقومك، خلّوا سبيله، واحملوا إلى أم المقتول ديته فإنها غريبة. ثم انصرف القاتل وما حل قيس حبوته ولا تغيّر وجهه».
وتلك درجة لا يرقاها الموتورون والذين لا يحيون إلا في بيئات عطنة وفاسدة فيها معاشهم ولا يهم بعد ذلك مآل المعاذ.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3659 - الأربعاء 12 سبتمبر 2012م الموافق 25 شوال 1433هـ
كلامك صحيح مية مية
مو علشان ذي سموه مذهب باطني لأنه يعتمد على التلغيم و الباطن و التقيه. قلنا لكم ما صدقتونه