في الأزمة التي تمر بالبلاد منذ 14 فبراير/ شباط 2011 ترددت في الأوساط السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كلمة حوار مرات كثيرة، فكانت محل اختلاف واسع بين المعارضة والجهات الرسمية ليس في أصلها، ولكن في مفهومها ومتطلباتها وأخلاقياتها وأدبياتها، لا أحد يختلف في إنسانية الحوار، ولا أحد يستطيع أن ينفي ملازمته للعنصر البشري منذ وجوده في هذه الدنيا، فالإنسان السوي تراه في حوار دائم ومستمر مع نفسه وأسرته ومجتمعه، ولم ينفصل أبدا عن الحوار في مختلف المحطات الحياتية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهو يعلم أن الانفصال عنه يسبب له خللا كبيرا في العلاقات السياسية والإنسانية والاجتماعية والحقوقية والقانونية، ويوجد هوة عميقة بين السلطات والمعارضة، ويخلق تباعدا وتباغضا نفسيا واسعا بين الطرفين المختلفين.
الحوار يساعد على إيجاد الأزمات السياسية والخدمية والاقتصادية والحقوقية، وهذه حقيقة ناصعة لا يمكن لأحد نكرانها أو تجاهلها أو التغافل عنها، لاشك أن لكل أزمة حواراً خاصاً بها، فالحوار الاجتماعي تختلف آلياته وأساليبه عن الحوار الاقتصادي، والحوار السياسي ما لم يلتفت إلى متطلباته وتؤخذ بعين الاعتبار كل التفاصيل والحيثيات الدقيقة، في الغالب لن يحقق أي نجاحات حقيقية، وما لم يكن هناك مؤشرات إيجابية يشعر الآخر من خلالها بجدية المقصد لن تكون بدايته موفقة، لا يفهم أن ما ذكر آنفا هو شرط، وإنما هي متطلبات ومؤشرات ضرورية لكل حوار يراد له بداية ناجحة على أقل تقدير.
والقول اننا نريد حوارا بلا شروط مسبقة، هو في حد ذاته شرط مسبق، أي أن من يشترط بألا يكون شرط مسبق هو شرط مسبق، ويعتبره العقلاء هو خرق للمطلب الذي يريده، من دون أن يلتفت إليه، فالحوار لا يحتاج إلى شروط مسبقة، وإنما يحتاج إلى متطلبات ومؤشرات إيجابية مسبقة، ويحتاج إلى ضوابط أخلاقية وأدبية متعارف عليها عالميا، التي تفرض على الجانبين المختلفين (الرسمي والمعارض) التخلي عن وجهات النظر المسبقة، وأن يعلنا استعدادهما تقبل الحقيقة حتى ولو كانت في غير صالحهما، ويجب عليهما الامتناع عن الإيذاء والسخرية والشتم والسباب والتوقف عن جميع الحملات الإعلامية التي تثير الفتن الطائفية البغيضة وتشيع الكراهية والبغضاء بين مختلف مكونات المجتمع، وأن يلتزما بتقديم الأدلة الحقيقية أثناء المحاورة.
ويجب على كل طرف أن يحسن الظن بالطرف الآخر ليتوصلا إلى الحقيقة التي من المفترض أن تكون هدفهما المشترك، وأن يقبلا أخلاقيا بالنتائج التي بنيت على أسس منطقية ووطنية وإنسانية وقانونية وحقوقية وسياسية واضحة، واعتمدت على الأدلة القاطعة التي لا تقبل التأويل أو التحريف، لاشك أن للحوار آداباً يجب الالتزام بها في جميع مراحله، لا يمكن لأي حوار أن يبدأ بين طرفين متخاصمين أو مختلفين ما لم يكون هناك إخلاص وحسن نية، وتواضع وحسن خلق، وحلم وصبر، وحسن إصغاء، ومحبة إنسانية رغم الخلافات، واحترام الطرف الآخر.
والمنطق العقلاني يقول إن المتطلبات والمؤشرات والضوابط والآداب كلها تأتي بعد اعتراف الطرفين بوجود أزمة، بدون الإقرار بوجودها لن يكون للحوار فائدة تذكر، وسيكون مفرغا من مضامينه الحقيقية التي توصلهما إلى حلول واقعية وموضوعية للأزمة، وكما يقال إن نصف حل الأزمات يكمن في الإقرار بوجودها أولا، والإقرار بأن الأزمة خلفت أزمات جديدة من خلال المعالجات والإجراءات غير محسوبة العواقب ثانيا، والإقرار بأن أساليب العنف والعنف المضاد يزيد الأزمة تعقيدا وتأزما ثالثا، والإقرار بأهمية الحوار في كل الإشكالات السياسية رابعا، والإقرار بأن من يدخل الحوار هو من يمتلك مفاتيح الحل خامسا ، فالأمم التي حدثت فيها أزمات اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية ولم تقر بوجودها، ولم تعترف بمن في يدهم مفاتيح الحل، وصلت إلى حال قاس جدا لم تستطع الخروج منه إلا بشق الأنفس، بعد سنوات طويلة شاقة وبائسة.
يعتقد رجال السياسة أن فرص الحوار الجاد مازالت سانحة لكل الأطراف المعنية، منطقيا ان الفرص لا تصنع لوحدها ما لم يتحرك الإنسان لصناعتها، وأما القول بأن الظروف الإقليمية والدولية لها دور كبير في حل الأزمة أو تعقيدها، هذا الكلام غير دقيق سياسيا في أحايين كثيرة، فالأزمة محلية الصنع بامتياز، كما ورد في تقرير لجنة تقصي الحقائق، فحلها الحقيقي الذي يعطي كل ذي حق حقه يجب أن يكون صناعة محلية بامتياز أيضا، قد يقول قائل لا ضير ولا عيب لو تم الاستعانة بخبرات سياسية لها ثقلها الدولي الذي لا يختلف عليه اثنان، في بعض مفاصل الحل، مادامت أصول الحلول منبثقة من الداخل.
لابد أن يعلم الجميع أن إطالة أمد الأزمة ليس في صالح الوطن بكل المقاييس السياسية والاقتصادية والحقوقية، والكل يعلم أن هناك رؤى سياسية محلية، معالمها وأهدافها واضحة طرحت حلا منذ عدة شهور، تعتقد أنه ناجع لهذه الأزمة، ومازال صناع تلك الرؤى أو الوثيقة ينتظرون اليوم الذي تناقش فيه رؤاهم في حوار جاد، نسال الله جلت قدرته أن يمن على إنسان هذا البلد بالأمن والأمن والعدل والمساواة والإنصاف، وأن يبعد عنه التمييز بكل ألوانه وأشكاله، وان يجعل أيامه القادمة خيراً من ماضيها، وأن يفتح له أبواب الرحمة من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، وأن يجعله عنصرا فاعلا في تنمية وتطوير وطنه في جميع الميادين، العلمية والأدبية والتربوية والطبية والاقتصادية والسياسية والفنية والتقنية وفي كل المجالات التخصصية والعامة.
العدد 3657 - الإثنين 10 سبتمبر 2012م الموافق 23 شوال 1433هـ