قد ينظر البعض إلى مسألة الكرم والضيافة باعتبارها حكاية من الماضي ترتبط بقلة الزاد وعدم إمكانية الحصول عليه بمقابل مادي في ذلك الوقت كما هو الحال هذه الأيام، وخصوصاً في الأماكن النائية وطرق السفر. وأن الكرم ومراسيم الضيافة بدأت تختفي تدريجياً وخصوصاً عند سكان المدن، تبعاً للتطور الاجتماعي والمادي الذي فرضته الحياة المدنية، بما في ذلك توفر الأماكن العامة التي توفر هذه الخدمة للغرباء والمسافرين.
نقول: إن هذه السطور ليست دعوة ماضوية، بل دعوة لتعزيز تلك الصلة الوثيقة بين التربية القرآنية المتعلقة بالكرم وحسن الضيافة وبين الخصال التي احتلت مركزية رئيسة في الأخلاق العربية. ولعلها قناعة ذاتية بضرورة مد الجسور بين تراثنا الأخلاقي ومنظومته القيمية وبين معطيات الحياة المعاصرة التي هي بحاجة إلى جهد فكري وإبداعي لعصرنة ذلك «الكنز الاستراتيجي» لكي ننطلق مجدداً باعتبارنا أمة متميزة بهويتها ومختلفة عن الوافد الأجنبي من القيم التي تحاول تشويه هذه الهوية؛ بل لعلها بحاجة إلى التمرد على الدخول في بيت الطاعة لثقافة الرأسمالية الوقحة.
فقد روي أن الرسول الأعظم (ص) مّر برجل له إبل وأبقار كثيرة فلم يضيفه، ومّر بامرأة لها شويهات فذبحت له إحداها فقال (ص): «انظروا إليها فإنما هذه الأخلاق بيد الله عز وجل، فمن شاء أن يمنحه خلقاً حسناً فعل».
هذا الثناء من قبل سيد البشرية على امرأة كريمة قامت بواجب ضيافته (ص) يذكّرنا بقصة امرأة كريمة صابرة باذلة للمعروف وإكرام الضيوف اصطفاها الله عز وجل واختارها من بين البشر لتكون زوجاً لخليله إبراهيم (ع)، لم يذكر القرآن اسمها صراحةً وإنما أشار الله إليها في موضعين في سورتي «هود» و «الذاريات». إنها سارة (ع). يقول سبحانه وتعالى في صاحبة المناقب العظيمة «وامرأته قائمة»، لخدمة هؤلاء الأضياف الذين حلوا على زوجها؛ فخدمة الضيف وإكرامه خصلة شرعية طيبة ينبغي غرسها في النفوس، وغاية هذه السطور أن يتربى عليها الجيل من الأبناء. ولعل الدرس الذي تقدمه سارة باعتبارها قدوةً للنساء في الكرم وخدمة الضيف، له إسقاطات على حياتنا المعاصرة نظراً لما يلاحظ من تذمر بعض الزوجات من كرم أزواجهن وتردد بعضهن في القيام بفتح بيوتهن للضيوف أو حتى للقاءات أسر أزواجهن الممتدة في المناسبات الاجتماعية والأعياد بهدف لم الشمل والتماسك العائلي. ولنا في تجربة نبي الله إبراهيم الخليل وزوجته عبرة أخلاقية، فقد كانا على استعداد لاستقبال أي ضيف وفي أي وقت، إلى درجة أنه كان (ع) إذا حضر طعامه ولم يجد من يشاركه فيه يخرج ميلاً أو ميلين يلتمس من يأكل معه.
كما يذكر الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر «فراغ إلى أهله»، يقول المفسّرون الروغان هو الذهاب بسرعة واختفاء بحيث لا يكاد يشعر به الضيف إلا وقد جاء بطعام ضيافته. وكلمة «إلى أهله» تتضمن مدحاً لما فيه من الإشارة إلى أن كرامة الضيف حاصلة عند أهله لاعتيادهم على الضيافة. ومعلوم أن إبراهيم الخليل (ع) هو أول من ضّيف الضيفان، وأول من بنى داراً للضيافة، ولعل هذه السطور تحفز ذوي الهمم العالية من المقتدرين مالياً على بناء دور للضيافة في مجتمعاتهم المحلية بهدف إحياء هذه السنة الحسنة.
ويجمع العقلاء على أن من أبرز مظاهر الوعي عند الأفراد هو شعورهم بحق الجماعة عليهم وتصرفهم بما يمليه عليهم ضميرهم الأخلاقي، وبهذا المقياس يقاس رقي الأمم وخلود الحضارات وعظمة الديانات؛ وخصوصاً أننا نرتع من معين تراثنا الديني والأخلاقي الذي يندر أن توجد فيه روح الانعزالية والفردية.
فحاتم الطائي لم يكن أغنى الناس في زمانه؛ لكنه كان قمة في العطاء... يقول:
أضاحك ضيفي عند إنزال رحله
ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن تكثر القرى
ولكنما وجه الكريم خصيب
فالعطاء ليس مقصوراً على ملكية المال؛ فحجم المنزل - على سبيل المثال - من حيث الكبر والصغر ليس له علاقة بالكرم وحسن الضيافة. فهناك منازل كبيرة بل تشبه القصور يستوحش الناس من الدخول إليها، بل تهرب منها حتى العصافير لبخل أهلها. والعرب تقول: «الأماكن بأهلها»، وقصة الثعلب والطبل التي وردت في كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع من القصص التي علمتنا منذ الصغر ألا نخدع بحجم الأشياء؛ لأن مقياس النفع لا يكون بمقاسات أحجامها. تقول القصة... زعموا أن ثعلباً أتى أجمة فيها طبل معلق على شجرة، وكلما هبت الريح على قضبان الشجرة حركتها فضربت الطبل فسمع له صوت عظيم، فتوجّه الثعلب نحوه فلما أتاه وجده ضخماً وأيقن بكثرة الشحم واللحم فعالجه حتى شقه. فلما رآه أجوف لا شيء فيه قال: لا أدري ربما كانت أتفه الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثةً!.
في حالات عديدة تبرز قيمة الكرم والمبادرة والجود وخصوصاً عند تقلبات الدهر وحوادث الزمان والأزمات التي قد تتعرض لها الأسر والعوائل، وكذلك حالات الزواج والوفاة. في مثل هذه الظروف يتألق دور السخي وهو الذي يبادر ولا ينتظر أن يقع في دائرة الإحراج حتى يعطي أو يقوم بالمساندة الاجتماعية، فالجود يعني المبادرة والفزعة. ويذكر التاريخ أن صعصعة بن صوحان قائد الجيش في معسكر الإمام علي (ع) وقد كان خطيباً بليغاً من أهل القطيف، توفي سنة 60 هـ، قد سأله معاوية ذات مرة: ما الجود؟ فقال: التبرع بالمال والعطية قبل السؤال.
وأختم بحديث حول أول من ضيّف الضيفان، فقد روي أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه إبراهيم الخليل (ع): أتدري لم اتخذتك خليلاً؟ قال: لا يا رب. قال: «لأني رأيتك تحب أن تعطي ولا تحب أن تأخذ». وفي خبر آخر: «لم أجد قلباً أسخى من قلبك».
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 3654 - الجمعة 07 سبتمبر 2012م الموافق 20 شوال 1433هـ
شكري لك تقصير
في الصميم مقال اكثر من رائع شكرا يا اخي مقالك له راحة نفسية وكأني ارتحت من عناء المقالات السياسية في مقالك كأني داخل البيت العود القديم المضياف سلام الله عليك يا أمي عندما نقول لها زياده الاكل اللي تطبخينه قالت الزاد ما يجي الا بأهله حتى تعودوا الاصدقاء أن يأتوا بلا موعد في نفس الوقت والاكل جاهز. شكرا يا أخي على المعلومات التي طرحت
بسبب الحسد
انا من الناس ولله الحمد مفتوح بيت واحب الناس ولكني للاسف اتفاجا بان بعض الناس تحسدك على نعم الله عليك فتحسب اكلك شربك اوبيتك يدخلها الحسد لذلك تجد البعض يخاف فيغلق بيته على نفسه