في الأقطار العربية التي نجحت فيها الثورات الشعبية، مهما اختلف البعض حول مقدار نجاحاتها، والتي نقلت تلك الأقطار من نظام سياسي فاسد مستبد سابق إلى وضع سياسي جديد واعد بالإمكانيات التي ستأتي مستقبلاً بتغييرات مجتمعية وإنسانية كبرى... في هذه الأقطار سنحتاج للعودة المرَّة تلو المرَة لموضوعي السياسات الاقتصادية وملابساتها الاجتماعية الكارثية خصوصاً وأنهما كانا أحد أهمٍ عوامل تفجُّر الأوضاع.
لقد تبنت الأنظمة السابقة عدة اتجاهات اقتصادية اجتماعية خاطئة. فهي أولاً احتضنت بصورة تامة كل توجُّهات وممارسات اللّيبرالية الجديدة المتوحّشة التي هبَّت رياحها العاصفة منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي. وقد ركزت اهتمامها على التجارة وتدفق السّلع والاستهلاك النهم، وعلى حرية حركة الرأسمال الوطني والأجنبي، وانزلقت شيئاً فشيئاَ نحو تبني الاقتصاد المالي غير المنضبط المبني على المغامرة والمضاربات الجنونية في العقارات والأسهم بدلاً من تبني الاقتصاد الإنتاجي للسّلع الضرورية وللخدمات العامة والاقتصاد المعرفي.
ثم اتبعت ذلك بتنازلها عن مهمتها الأساسية في بناء دولة الرعاية والرفاهية الاجتماعية فخصخصت مؤسسات البنية التحتية من كهرباء وماء ومواصلات وإسكان ومؤسسات الخدمات العامة من صحة وتعليم وتدريب ورياضة، وفي الوقت نفسه أصرت على أن تكون الموازنات العامه متقشفة وبذلك غير قادرة على تقديم خدمات عامة معقولة لعموم المواطنين، وخصوصاً الفقراء والمهمشين منهم.
ومن أجل الحصول على قروض لسد العجز في موازناتها، خضعت لإملاءات وشروط وابتزاز البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية المتناغمة والمتعاونة مع دوائر النيوليبرالية في عواصم الغرب والشرق. وهي التي بدورها كانت خاضعة لإملاءات وأطماع وجنون مؤسسات المال والاقتصاد الدولية العابرة للقارات الكبرى والمكتسحة للاقتصادات الوطنية.
ولأنَّ تلك الأنظمة العربية كانت فاسدة وطامعة وأنانية، أصبحت مع الوقت أداة طيّعة منفّذة ومشاركة في بناء اقتصاد أدَّى إلى زيادة هائلة في ثروات الأغنياء وفي فقر وعوز الفقراء وإلى جمود الرَّواتب وضمور الطبقة الوسطى. وحتى لا تجد من يعارضها في تطبيقها لتلك السياسات أضعفت وهمَّشت النَّقابات العمالية والمهنية، بل واخترقت تنظيماتها وأفسدتها.
نحن إذن أمام صورة بائسة لاقتصاد غير تنموي ودائر في فلك مصالح أقلية مغامرة جشعة من مالكي الرأسمال. ولذا فان مهمة أنظمة ما بعد الثورات هي قلب تلك الصورة رأساً على عقب، وهي مهمَّة لن تكون سهلة إلا إذا رافقتها إرادة سياسية وطنية مستقلَّة غير خاضعة لابتزاز أميركا وحلفائها ومؤسساتها الدولية من جهة، وفي الوقت نفسه انبنى جهد عربي متناغم مشترك لمقاومة الضغوط الدولية وللمساعدة في عودة الجميع نحو اقتصاد عربي إنتاجي – معرفي طال انتظاره. وبالطبع فان ذلك سيتطلب استراتيجيات على المدى الطويل، لكن هناك خطوات يمكن البدء بها على المدى القصير.
أولاً: عدم الالتحاق بهوس ممنوعات الليبرالية الجديدة من مثل عدم السماح لأي تضخُم أو أي عجز في الموازنات العامة أو تدخل الدولة لضبط حركة الأسواق والاستثمارات والسياسات النقدية. هناك أمثلة لدول في آسيا وأميركا الجنوبية رفضت تلك المقولات ونجحت في بناء اقتصاد تنموي لصالح عموم المواطنين. القاعدة الأساسية هي أن كل ما يؤدي إلى بناء اقتصاد إنتاجي - معرفي وإلى توافر خدمات اجتماعية معقولة لعموم الناس يجب أن يؤخذ دون تردد.
ثانياً: يجب عدم السَماح لأن يكون القرار بيد مالك رأس المال فقط، وإنما يشمل عناصر الإنتاج الأخرى من مثل المؤسسات الحكومية والتشريعية التي تساهم بأشكال كثيرة في توفير البيئة المادية والمعنوية لمالك المال ومن مثل النقابات ومديري مختلف المؤسسات الذين يشغّلون المال وأشكال من مؤسسات المجتمع المدني المعنية بالدفاع عن الصالح العام.
ثالثاً: الإصرار على عودة صعود مكانة السياسة في الحياة الاقتصادية، أي مكانة المواطنية بما تعنيه من توزيع عادل للثروة، وكفاية معيشية إنسانية لكل مواطن، ورفض لفروق جائرة بين الغني والفقير، ومنع لأي ممارسات مالية أو اقتصادية تؤدّي إلى أزمات لا يكتوي بنارها في النهاية إلا الفقير الذي لا ناقة له ولا جمل في ساحات جنون المضاربات.
رابعاً: ألا تكون مرجعية الفكر والسياسات الاقتصادية في يد أدوات التدخُّل الأميركي المستتر من مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
خامساً: السَعي باسم الأخوة والعروبة والإسلام لأن تكون التّسعة تريليونات من الدولارات التي ستدخل في خزائن دول مجلس التعاون في العشر سنوات القادمة، والتي ستفيض عن حاجاتها كثيراً، أحد مداخل العون غير المشروط للنُّهوض الاقتصادي الذي نتحدَّث عنه. هذا سيعتمد على مقدار حساسية دول وشعوب الخليج العربي للعدالة والتراحم والتعاضد.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 3653 - الخميس 06 سبتمبر 2012م الموافق 19 شوال 1433هـ