إذا أصيب «الأحسن» بالفساد، تحول إلى «الأسوأ». مثل لاتيني، «كلما كثرت القوانين، كثر معها اللصوص وقطاع الطرق». لاو تزي (القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد).
إن العبارات السابقة ترينا أن الفساد (إساءة استخدام السلطة السياسية لمكاسب شخصية) كان ولايزال سبباً في الإضرار بالناس العاديين شرقاً وغرباً منذ أمد سحيق. ولقد كان هنالك تقليد من القبول القدَري بأن «تزييت أيدي المسئولين» ضروري لتحريك عجلات الحكومة، وكان القليل من «الكسب غير المشروع» تعبيراً عن حسن النية تجاه المسئولين منخفضي الدخل أو شكلاً مشروعاً من أشكال التنافس. أضف إلى ذلك أن معظم الأديان سلّمت بوجود الفساد، ونجد ذلك مثلاً في العديد من فقرات التلمود والكتاب المقدس، حيث نقرأ في سفر التكوين (6،12) «ونظر الرب إلى الأرض فإذا هي قد فسدت؛ إذ كان كل بشر من لحم ودم قد أفسد طريقه على الأرض».
أما في عصرنا هذا فتتعاظم النظرة إلى الفساد باعتباره انتهاكاً للفكرة القائلة إن البشر يولدون جميعاً وهم متساوون في حق السعي إلى السعادة بكل السبل المشروعة المتاحة لهم. لقد حازت هذه الفكرة الفردانية القبول الشعبي أساساً إبان عصر التنوير في الغرب، وكان لها آثار في تحديد الدور الذي يلعبه الحاكم والمحكوم. ونجد لهذه الفكرة نصاً صريحاً وواضحاً، على سبيل المثال، في إعلان بنسلفانيا للحقوق (1776)، وهو بيان رائد جاء فيه: «الشعب مصدر السلطات؛ ولهذا فإن جميع المسئولين الحكوميين، سواء أكانوا تابعين للسلطة التشريعية أو التنفيذية، يعتبرون أمناء وخدماً للشعب، ويتحملون المسئولية أمامه في كل حين». وبتعبير آخر، فإن المواطنين هم المشرفون، أما المسئولون الحكوميون فليسوا إلا وكلاء للمواطنين يفترض فيهم العمل بنزاهة. وقد بدأت هذه الروحية بالانتشار في أنحاء العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها كانت طموحاً أكثر من كونها واقعاً عملياً.
لقد خاض فلاسفة القرن الثامن عشر، من أمثال آدم سميث، صراعاً كبيراً في عصرهم عندما اعتبروا الفساد أمراً سيئاً من الناحية الأخلاقية، واليوم نجد تعاليمهم وهي تنتشر في أنحاء العالم لتعزز تفاؤلاً جديداً بإمكانية القضاء على الكسب غير المشروع.
وقد قامت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) بحثّ الحكومات الأعضاء فيها على اعتبار تقديم الرشا إلى المسئولين الأجانب والشركات الأجنبية جنحة جنائية. وفي نهاية العام 2005 أصبحت بنود معاهدة الأمم المتحدة ضد الفساد قيد التطبيق، والتي تهدف إلى وضع معوقات أكثر أمام عمليات غسيل الأموال وتسهيل استعادة الأموال المسروقة. ولكننا إذا نظرنا إلى السجل التاريخي لمعاهدات الأمم المتحدة فلا يمكننا أن نتيقن من تبني الدول الفقيرة للمعايير الممتازة لهذه المعاهدة. وقد احتج المصدرون من دول منظمة (OECD) أحياناً بأن ذلك يضعهم في الجهة الخاسرة عند التنافس مع جهات محلية فاسدة، ولكن بعض دول منظمة (OECD) أصبحت تعتبر التعامل الفاسد لمواطنيها جنحة يعاقب عليها القانون، وذلك لأنها لاحظت أن الفساد يؤدي إلى امتيازات غير عادلة تحوزها النخب والصناعات ذات النفوذ، ما يعود بالخسارة المجحفة بحق باقي المواطنين كافة. كما يعد الفساد عقبة بوجه التنافس الأصيل عبر السعر والنوعية، وهكذا تمتد آثاره إلى النمو الاقتصادي.
إن من يتسامح مع الفساد، ومن يدعو إليه، ينتقص من أهمية المؤسسات التي تعتبر شرطاً أساسياً للنمو الاقتصادي، وذلك يؤدي إلى إدامة الفقر والظلم والبؤس. كما أن المتنافسين الذين يعتمدون على الفساد في الارتقاء بأعمالهم إنما يرتكبون خيانةً بحق الشروط الأساسية لاقتصاد السوق، وذلك لأن التقسيم الحديث للعمل يعتمد على استثمار ما يعرفه الناس، وليس على من يدفع الرشوة الأكبر. والثروة تتكون على أساس المعرفة التكنولوجية والتجارية وعلى تواصلها الفعال مع إشارات السوق التي توجه التخصص الفعال والابتكار؛ وإذا أردنا لذلك أن يحدث، فيجب حينها أن تؤسس الأسواق على قاعدة الثقة بين الغرباء، والفساد يستهدف هذه النقطة بسمومه، فيجعل القرارات تتخذ على أساس «من يعرفه المرء» وليس «أفضل ما يعرفه المرء». وفي قطاع الأعمال يؤدي الفساد إلى فرض ضوابط مرهقة تجعل الأسواق تبث إشارات بنشاط أقل كفاءة.
إن التجربة التنموية خلال نصف قرن تظهر لنا أن النمو الاقتصادي الضعيف لا ينتج عن نقص الثروات الطبيعية أو رأس المال أو غير ذلك من الموارد. وإنما تشترك كل الاقتصادات التي فشلت في تحقيق النمو بأنها تمتلك قواعد ضعيفة لتنسيق الحياة الاجتماعية والاقتصادية (المؤسسات)، والتي تقف عائقاً بوجه الادخار والاستثمار واستكشاف الموارد وغيرها من الجهود الريادية لتحريك القوى الإنتاجية.
وينقل عن عميد الاقتصاد التنموي، الراحل لورد بيتر باور، أنه قال بوضوح: «الأداء الاقتصادي يعتمد على العوامل الشخصية والثقافية والسياسية، وعلى مواهب الناس ومواقفهم ومحفزاتهم والمؤسسات الاجتماعية والسياسية». وتتأتى هذه الأهمية العالية للمؤسسات من أن عملية النمو تتطلب تنسيق جهود العديد من الأشخاص ذوي المعارف الخاصة، والذين يتحملون تكاليف التعامل ويتجشمون عناء المخاطرة في استكشاف طرق جديدة أفضل لأداء المهمات.
ولا حاجة هنا للتأكيد على أن النمو الاقتصادي قد أدى إلى التخلص من العديد من الأمراض التقليدية التي ابتليت بها الإنسانية طويلاً: كنسبة الوفيات الكبيرة لدى الأطفال، والأعمال الشاقة، وتكرار المجاعات والأوبئة، وانتشار القذارة والجهل، والإحساس الدائم بالضيق والضجر، والشيخوخة المبكرة وقصر العمر.
إن ما يهم بالنسبة للنمو الاقتصادي ليس نوعية المؤسسات فحسب، وإنما مستوى الفعالية والإنصاف في تطبيقها وفرضها. فمن القواعد ما يُفرض من ضمن المجتمع: حيث يتعرض الغشاش، مثلاً، إلى تحاشي الناس له تلقائياً وخسارته سمعته، والكاذب يتعرض للتوبيخ، وهكذا دواليك؛ ومن القواعد ما يُصمم ويُفرض بواسطة فعل سياسي من قمة الهرم: حيث تقوم الحكومة بإصدار تشريعات تحمي الأنفس والملكية الخاصة، وتشكل منظومة قضائية وقوة شرطة لفرض هذه القواعد؛ وعندما تؤدي بعض النشاطات إلى التسبب بالأذى للآخرين، فإنها تصبح خاضعةً للترخيص الحكومي، وهكذا دواليك.
إن هذه الوكالات تحصل على سلطات احتكارية لممارسة الإجبار الشرعي، ومن الضروري لتحقيق العدل والازدهار أن تُطبّق هذه السلطات من دون ترهيب أو ترغيب، ومن دون أن يعمد وكلاء الحكومة إلى استغلال هذه السلطات لتحقيق منافع شخصية.
إن المجتمعات التي تحقق التنسيق غالباً بواسطة قواعد داخلية في المجتمع وعبر الفرض التلقائي، وبالتالي فهي لا تعتمد إلا بشكل محدود على القواعد الخارجية للحكومة، هي مجتمعات تميل إلى إبداء فعالية أكبر في تحقيق النمو الاقتصادي وتكافؤ الفرص، وذلك بالمقارنة مع مجتمعات تحكمها قبضة قوية وتخضع إلى قواعد إيعازية متعددة. ويصح هذا بالأخص عندما يستسلم وكلاء الحكومة إلى الإغراء البشري المشترك بالانتهازية التي تبحث عن المنفعة الذاتية فيقعون في فخ الفساد؛ ففي المحصلة، يتمتع وكلاء الحكومة دائماً بالقدرة على استغلال نقص معرفة الناس بجميع التفاصيل والظروف المتعلقة بالشئون التي يقومون عليها، ويقدمون على تعزيز مصالحهم الخاصة على حساب عامة الناس (وهذا هو الفساد).
وما أن يترسخ الفساد حتى تتغلغل تأثيراته وتتعمق جذوره؛ ومن أمثلة ذلك المزاد العلني أو السري للعمولات والتعيينات في وظائف التعليم المدرسي أو الشرطة. ولقد شاهدت بنفسي في إندونيسيا كيف أن الآباء يشترون الوظائف لأبنائهم وبناتهم بعد أن يكملوا تعليمهم، وغالباً ما يكون ذلك بتضحيات مالية كبيرة، فما أن يتم الحصول على الوظيفة فإنها تكون «ملكاً» لمن نجح في الفوز بها من دون الحاجة إلى أن يضمن الاحتفاظ بها عبر الاستمرار في أداء العمل.
وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي على العائلة أن تستعيد «استثمارها» عبر بيع التفضيل في التعامل أو عبر جمع «المستحقات»، والتي تعد من عوائد الاستثمار في هذه الوظيفة. أما الدعوة إلى الترقية الوظيفية عبر الاختبارات والجدارة في الأداء فينظر إليها باعتبارها مبادرة لحرمان المسئولين من عوائد شرعية ناتجة عن «استثمارات» سابقة. إن هذه الإصلاحات لا يمكن فرضها من الخارج، وإنما يجب التعامل معها عبر مصلحين محليين.
من الحقائق المعروفة أن الفساد الرسمي يرتبط بعلاقة متبادلة مع الحرية الاقتصادية، أي أن العلاقة ما بين مستوى الموثوقية في صيانة المؤسسات لحقوق الملكية الخاصة وحرية استخدامها، وبين مستوى الاستقلالية والموثوقية في دور القانون في البلاد. إن إصدار الضوابط المرهقة المعقدة، والتي تلقي بتأثيراتها على الدخل الخاص والثروة بشكل دائم، يعتبر من أسباب تغلغل الكسب غير المشروع. وفي الحقيقة، لا يمكن الحيلولة دون الخروج باستنتاج مفاده أن بعض الضوابط تفرض أساساً لتمكين أرباب السلطة من الحصول على الرشا.
وفي آراء الاقتصادي الحائز جائزة نوبل، أمارتيا سين، والذي هو محقٌ في اعتباره حدوث التنمية الاقتصادية في الدول الفقيرة نوعاً من أنواع التحرير، نجد أنه يرى أن إلغاء الضوابط من جانب واحد في الدول النامية يبرر ما ينتج عنه من انحسار للفساد، وذلك بغض النظر عما إذا كان يؤدي إلى فوائد أخرى. كما أن الحكومة النزيهة تساهم أيضاً في رفع مستوى الثقة ما بين الناس.
خلال حقبة طويلة من القرن العشرين لم يكن هنالك فهم في صفوف المفكرين وجهات التخطيط للدور المحوري للمؤسسات كما عرّفه آدم سميث. ولم يكن يتبع المدرسة الاقتصادية النمساوية المؤسساتية غير أقلية من الاقتصاديين من أمثال بيتر باور. ولكن المقاربة التطورية المؤسساتية بدأت في ثمانينيات القرن العشرين باتخاذ موطئ قدم لها وكان لها أثر كبير على التخطيط والإصلاح. ومؤخراً نجد أن حتى بعض المنظمات العالمية قد بدأت في الاهتمام جدياً بالمؤسسات وتطبيقها بنزاهة، ولهذا ركزت نسخة العام 2005 من تقرير صندوق النقد الدولي المعنون «المشهد الاقتصادي الدولي» على «بناء المؤسسات» (الفصل الثالث) بما نصه: «ارتفاع النمو يعتمد على حقوق ملكية أمتن، وفساد أقل، وأداء حكومي أفضل». وهذا ينبغي أن تكون له تأثيرات مهمة على السياسة، ومن أمثلة ذلك: كيف يمكن للمعونات الأجنبية أن تصل إلى مستحقيها بوجود مؤسسات ضعيفة؟
ولا مانع من التذكير هنا بنقطة أساسية، وهي: إن اختلاف مواقف الناس من الفساد والحرية الاقتصادية ينشأ من فجوة أساسية تفصل ما بين وجهات النظر؛ فوجهة النظر الغربية التي تعتبر الأفراد مالكين ومصالحهم ذات أهمية عليا في الأداء الحكومي إنما تتعارض مع وجهة نظر النخب السياسية في معظم المجتمعات التقليدية غير الغربية. فهذه النخب تعتبر نفسها هي المالكة وأن شعوبها موارد متاحة للاستغلال في سبيل تعزيز السلطة والثروة. أما الآن فالعولمة تنشر وجهة النظر الفردانية، وشعوب العالم توجه هجماتها إلى المصالح الأنانية للنخب القوية باعتبارها فساداً، كما أن صوتها لا يتعرض للاضطهاد كما كان يحدث في السابق.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3653 - الخميس 06 سبتمبر 2012م الموافق 19 شوال 1433هـ