العدد 3652 - الأربعاء 05 سبتمبر 2012م الموافق 18 شوال 1433هـ

عَشْريَّة «الوسط»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

غدًا الجمعة، السابع من سبتمبر/ أيلول تكمِل صحيفة «الوسط» عشريتها الأولى. ثلاثة آلاف وستمئة وثلاثة وخمسون إصدارًا من الأعداد، هي حصيلة هذه السنين العشر، من العمل الإعلامي الجاد، وسط ظروف فيها من التحدي ما تشيب له الولدان. ولأن الزمن الذي جاءت فيه «الوسط» زمنٌ مختلف عن أيِّ زمن آخر، فإن صيغة العمل، تطلَّبَت أن تكون مختلفة هي الأخرى، وهو ما حصل فعلاً، حيث كانت بحجم الزمن وبحجم تحدِّيه.

نعم... الزمن له دورٌ مهم في التأثير على الأشياء بما فيها الصحافة، كما هو دور الجغرافيا في تحديد السياسة. ففي المجتمعات المنغلقة، تصبح الصحافة أسيرة لمقاس اجتماعي ضيِّق. فهي إن توسَّعت عليه، أصبحت فضفاضًا. وإن هي لازمت ضيقه، راوحت مكانها. وما بين هذيْن المحبسيْن، تصبح الدقة وحصافة الرأي والعمل، أهم عناوين التطور، للوصول إلى نقطة متوازنة، تكون هي الكُوَّة إلى تغيير الواقع ونقله إلى الأمام.

في الجانب الآخر، فإن الصحف الحيَّة والحيوية، تتأثر كذلك، بالنظام السياسي القائم. فدورها المهني والفكري يقتضي أن تغالِب الصحافة النظم السياسية، لكي تؤدي وظيفتها، كونها قيمة رقابية معنوية على سلوك ذلك النظام. فإن كانت تلك النظم القائمة، متقدمة وديمقراطية وتعدديَّة وشفافة، حصل التكامل الطبيعي بين الصحافة والسياسة، كونها سلطة رابعة، توازي أي سلطة أخرى، باعتبارها محكمة شعبية.

وإن كانت النظم السياسية القائمة متخلفة وغير تعددية، ينخرها الفساد وتسوِّرها الشَّلليَّة والمحسوبية، أصبحت الصحافة، متقدمة بسنوات ضوئية على فضاء الدولة؛ تفكِّر قبلها، وتملأ الفراغ قبلها، وتواجهها بالتساؤلات، وتفاجئها بكشف مثالبها، وبالتالي يصبح هناك فتق في العلاقة بينهما؛ وهو أمرٌ يتكرر في مشاريع الدول المتعثرة غالبًا، والتي تتأخر في عمليات الانتقال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي.

في هذه اللحظة التاريخية، التي نقترب فيها من عشرية «الوسط» أتذكر ما قاله الفيلسوف اليوناني نيكوس كازانتزاكيس: «إن روحي كلَّها صرخة، وأعمالي كلَّها تعقيب على هذه الصرخة». والحقيقة، أن «الوسط» هي كذلك. هي صرخة في الفكر والإبداع والسياسة، وفي السلوك المتقدم في الحرص على اجتماع المكوِّنات الاجتماعية، وكسر صنميَّة التخلف، وعدم اجترار المراحل الخاطئة، ومنح اللحظة قيمتها الفعلية.

عندما نرى هذا المسلك الإعلامي لـ «الوسط» بكل ما يحويه من أخبار ومقالات وتحقيقات وتقارير وزوايا مختارة بعناية لكافة الأشكال الخبرية، فهو تعبير كُلِّي عن جوهر «الوسط». والمسافة الفاصلة ما بين الروح الصارخة والتعقيب المكتوب، هي اختبار آخر لمدى الانسجام والتماثل ما بين الأفكار وتطبيقاتها، كي لا تفقد الصرخة رؤيتها الصحيحة، وكي لا يكون التعقيب على غير ما ترومه تلك الصرخة من تجديد وتغيير وإبداع وتألق.

يُخطئ مَنْ يعتقد بأن الصحافة ما هي إلاَّ أداة من أدوات الصراع السياسي واحتراباته، حين يتم إرغامها على لعب دور ما في صياغة العقول والقلوب، ثم توجيهها في معارك فردية أو فئوية. فهذا السلوك لا يتلاءم مع أصل صرختها ووظيفتها، التي تتعدَّى الإخبار بالشيء، ثم تحليله؛ لأنها مرتبطة أساسًا بقوة التغيير السياسي والاجتماعي والفكري للمجتمعات والدول.

حين ننظر إلى التاريخ على امتداده، فإننا سنجد، أن الصحافة كانت بالقرب من أهم التحولات الثورية والاجتماعية الكبرى في حركة الشعوب، وكذلك بالتساوق مع الدولة المبنية بناءً متينًا، بعد حقبة من الظلام والتخلف السياسي والاجتماعي. كما أنها ارتبطت بمَلَكَات الإبداع الفردي، في أهم مجالات العلوم الإنسانية والتطبيقية والإدراكية وغيرها، بدون تمييز، وكأنها صنوٌ رئيسي لا يقل شأناً عن غيره من العلوم الأخرى.

لقد كان هناك شعراء وفلاسفة لكنهم كتَّابٌ مرموقون كـ فرانسيس بيكون وبول فاليري وغوتولد إفرايم لسينغ وجورج سانتايانا، وجوزيف أديسون وآرثر سي كلارك، وكان هناك فلاسفة لكنهم صحافيون متألقون كـ ألبير كامو وفولتير. كما ارتبطت الصحافة حتى بالمخترعين كما في حالة توماس بين، وهو ما يعني أنها ليست أمرًا هامشيًا مطلقاً.

بل إن الصحافة كانت على تماس حتى بالتطور القومي للشعوب، وبالخصوص في أوروبا، ولاحقاً في المغرب العربي، إبان الاستعمار الفرنسي، أو في منطقة الخليج العربي أيام الاستعمار الانجليزي. فخلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ظهَرَ ذلك جليًا في أوروبا باعتماد الخطاب القومي، لدى الكثير من الدول الطامحة لتثبيت هويتها، عبر جعل اللغة الرومانية محل اليونانية، والهنغارية محل اللاتينية، وبغَلَبة الألمانية على اللاتينية وكذلك الفرنسية في الأراضي الألمانية المتحررة، وهو ما ذكره صراحة مؤرخو تلك الفترة.

إن أهم خدمة نقدمها للصحافة اليوم، هي أن نساعدها على الإمساك بخياراتها الصحيحة، وأن تلعب دورها الطبيعي والمركزي، بدل جعلها واحدة من أدوات المعارك السوداء، في تثبيط الهمم، وإرغام الشعوب على القبول بقدريَّتها المحتومة، وشيطنة التغيير أمامها أو تخويفها منه، فهذه المعارك، وجبهات المصالح الخاصة لا تمت للصحافة بصلة، لأنها تعمل بوظيفة مخالفة لدور الصحافة كليًا.

وما قامت به «الوسط» في السابق وتقوم به اليوم، هو أنها أمسكت بتلك الخيارات الصحيحة جيدًا. وامتهنت المسلك المعتدل والمتوازن. وربما عَكَس ذلك ما نالته «الوسط» من تقدير إقليمي وعالمي مشهود، وما حققته من نفوذ وحضور كبيريْن، ليس على مستوى القراء فقط، وإنما على مستوى مراكز صنع القرار. كما أن بلوغها العشريَّة الأولى من عمرها وهي على ذات النهج وذات الصعود، لهو الإنجاز الأكبر، والتقدير الأسمى لها.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3652 - الأربعاء 05 سبتمبر 2012م الموافق 18 شوال 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:50 م

      احسنت

      المقال جميل أخ محمد والوسط بالفعل تستحق الإشادة

اقرأ ايضاً