الناس مختلفون في تأثيرهم، والدول مختلفة أيضاً. أزيد من ذلك؛ فالحيوانات تختلف هي الأخرى عن بعضها، إذا ما جيء بالمفترس منها، أو المدرار أو اللحِيْم. وكذلك الحال بالنسبة للصناعات، فيقال فخر الصناعة تلك أو هذه.
بطبيعة الحال، فإن التمايز لا يعني بالضرورة السُّمُو أو الأفضلية، بقدر ما يعني اختلاف الشيء عن غيره في أمر ما، سواء في الصفات أو في التأثير. أمرٌ قد يكون جيداً وقد يكون رديئاً وقد يكون ما بينهما.
أصِلُ ذلك بالمسألة السورية. فسورية كبَلَد، وبعد الذي جرى ويجري بأحشائها، أظهرت أنها بلدٌ مختلف، من بين كل الدول. بَلَدٌ جعل العالم ينقسم على نفسه في مجلس الأمن، لدرجة أن الصين استخدمت حق الفيتو ثلاث مرات في المسألة السورية، في الوقت الذي لم تستخدمه بكين طيلة حياتها ومنذ تأسيس مجلس الأمن إلا ثماني مرات فقط!
في الفترة التي سبقت مارس/ اذار من العام 2011، كان العالم ينظر إلى دمشق على أنها اللاعب الأبرز في عدد من القضايا الإقليمية البارزة، والتي في أحيان كثيرة، لا يتم التوصل فيها إلى حل إلاَّ من خلالها: لبنان، فلسطين، الجنوب التركي/ المسألة الكردية، أرمينيا والعلاقة مع إيران. وهي في الحقيقة الملفات السياسية والأمنية الأكثر جدلاً في المنطقة.
لم يكن أحدٌ يعرف، أن الدور السوري المركزي في زوايا الصراع الخارجي، يمكنه أن يتحوَّل إلى ما هو أكثر خطورة وحساسية عندما يرتد على داخل ذلك اللاعب. لقد أظهر الداخل السوري أنه أشبه ببحيرة في غابة مَطَريَّة، تمتلئ بالتماسيح، يُحوِّطها سورٌ هائل من الآجام، يُسمَع من ورائه استِعقار الذئاب، وتحوُّب ابن آوى، وجرْش الحيَّات وشُحاج الغراب.
لاحظوا معي كيف أصبح كعب أخيل السياسة الدولية جمعاء في المستنقع السوري الآسِن. الصين والولايات المتحدة الأميركية، بينهما تبادل تجاري وعلاقات مالية وسندات تصل إلى 446.7 مليار دولار، لكن الداخل السوري باينهما إلى حد الاشتباك في المحافل الدولية، مستعيدين بالذاكرة المشكلة البنغالية في العام 1972 والمقدونية أو حتى غواتيمالا، وهي المشاكل التي اشتبكت فيها بكين في مجلس الأمن باستخدامها الفيتو.
والروس الذين لم يختلفوا مع الأميركيين على تدمير العراق خلال حربَي الخليج الثانية والثالثة ولا في حرب الناتو على ليبيا بشكل جِدِّي، وجعلوا من اقتصادهم البالغ تريليونا وثماني مئة مليون دولار، لأن يسير في القاطرة الرأسمالية تصديراً واستيراداً، سواءً عبر الـ BRIC أو عبر العلاقات الاقتصادية الثنائية، أو حتى عبر منظمة التجارة العالمية التي انضمت إليها روسيا مؤخراً، قد تلاقا صدراً بصدر في الملف السوري، لحد الاحتراب.
تركيا (وقد تحدثنا عنها بشكل أكثر تفصيلاً في مقال سابق) لديها من العلاقة، ما يجعلها الأميز دون منازع مع الجار السوري، لدواع أمنية تتعلق بالمسألة الكردية، واقتصادية تتعلق بمحطات الترانزيت السورية، أو من خلال الموارد حيث قضية المياه، أصبحا في حالة من الخصومة القاسية، والحدود المقلقة، واستعار النزاع التركي الكردي، عبر المروحة السورية، القادمة من نوافذ القامشلي وجبال طوروس والمناطق القريبة.
إيران وتركيا الذي ميزان تبادلهما التجاري وصل إلى 16.5 مليار دولار، وازداد في بحر أربعة أشهر فقط بنسبة 68 في المئة، وتزوِّد طهران تركيا بالنفط والغاز، ومنها إلى وسط أوروبا وجنوبها، وتقاتل معها الأكراد (محورَي بيجاك/ العمَّال) أصبحتا اليوم في خصومة مكشوفة وخطيرة بسبب الملف السوري. كما ساءت علاقات الإيرانيين مع قطر الداخلة معها أصلاً في كارتيل الغاز العالمي، وفي تفاهمات في لبنان منذ العام 2008، وفي الملفين السوداني واليمني، بسبب ذلك الملف. كذلك الأمر ينسحب على العلاقات الإيرانية السعودية (مُراكَمَة على أزمات سابقة) بسبب الملف المأزوم ذاته أيضاً.
في الشمال، زاد الخلاف الأرمني التركي (التقليدي) واستعر بسبب الأزمة السورية، وأصبحت علاقات أرمينيا بذلك أوثق مع النظام السوري نكايةً بتركيا، وتحريضاً أكبر للوبي الأرمني داخل الولايات المتحدة الأميركية. وفي المقابل زاد التعاون الاذربيجاني التركي بسبب الأزمة السورية أيضاً، والذي كان قائماً من قبل منذ أن قررت أنقرة دعم باكو في صراعها على ناغورني كره باغ. وساءت العلاقات الروسية التركية أكثر بسبب الملف السوري، وهي العلاقة التي توترت إبَّان الثورات البرتقالية في جورجيا وأوكرانيا قبل سنين.
العراق الذي كان قاب قوسيْن أو أدنى من الدخول في صراع مفتوح مع دمشق بسبب اتهامه للأخيرة، بأنها تدعم المسلحين السُّنة القادمين من الغرب حيث الأنبار، باتجاه بغداد لقتال الأميركيين والشيعة، نراه يغيِّر من مقود سياسته الخارجية، باتجاه سياسة النأي عمّا يجري في سورية، واتخاذ مواقف أكثر قرباً من دمشق، خوفاً من انتقال العدوى إلى جنوبه الملتهب أصلاً بعمل الميليشيات المسلحة.
وأكراد العراق، الذين هم في دائرة الشك التركي، إذا ما وُضِعُوا في الخانة الأعلى لأكراد المنطقة، أصبحوا في تفاهم واضح مع أنقرة بسبب الملف السوري، بعد أن أرخَت دمشق قبضتها على مناطق الأكراد في الهامش السوري، الأمر الذي أقلق الأتراك، وجعلهم يلجأون إلى أكراد العراق علهم يكونون قادرين على أن يضعوا نقطة نظام فورية للمسألة المستجدة. بل إنهم (أي أكراد العراق) أصبحوا منشقين على أنفسهم، بعد المواقف التي أبدوها تجاه أكراد سورية، الأمر الذي هزَّ من علاقات الدَّم التاريخية بينهم وبين الجسم الكردي الأكبر، كل ذلك حصل ويحصل بسبب الملف السوري المعقد.
على مستوى العلاقات الدينية، فقد ساءت العلاقة ما بين الجسم السُّني السوري في الداخل، والمنضوي تحت مظلة تجمع اتحاد علماء الشام، أو تيار الشيخ أحمد كفتارو والمستقلين، ومعهم تيارات أخرى في لبنان وفلسطين وإفريقيا، الذين وقفوا جميعهم مع نظام بشار الأسد، مع الجسم السُّني الحركي في الخارج السوري، وبالتحديد مع تيار الاخوان المسلمين، بل ومع الكثير من الأحزاب السُّنيَّة في الخارج، الذين وقفوا ضد النظام السوري صراحةً، وأعلنوا الجهاد ضده، بالتحالف مع التيار السلفي، كل ذلك المشهد المأزوم في العلاقات السُّنيَّة السُّنيَّة، كان بسبب الملف السوري.
في المقابل، تقارب الاخوان المسلمون، والسلفيون وفلول من القاعدة والجهاديين مع الإدارة الأميركية، ومع الفرنسيين والبريطانيين بسبب الملف السوري، معيدين إلى الأذهان، التعاون السابق بين المجاميع ذاتها وواشنطن إبَّان الصراع الأميركي السوفياتي في أفغانستان، في تموضع جديد من العلاقات الإقليمية والدولية المتشابكة الايديولوجيات والمصالح، كل ذلك حصل ويحصل بسبب الملف السوري الملتهب.
في لبنان، تقاتل اللبنانيون في الشمال بسبب الملف السوري. واصطف مسيحيو وشيعة وسُنَّة ودروز وعلمانيو وبعثيو وشيوعيو وقوميو الثامن من آذار في خندق الأسد، فيما اصطف ذات التمثيل بالرابع عشر من آذار في خانة المناوئين للأسد، وقصِفت مناطق عكار، ومناطق الشمال اللبناني بالمدفعية. كل ذلك يحصل بسبب أزمة الملف السوري المتفاقمة.
هذا المشهد المعقد، يجعلنا نتفحص أكثر، مدى توغل المصالح الإقليمية والدولية والروابط الاجتماعية والسياسية، مع بعضها، ومدى توغل مصالح النظام السوري، مع كل ذلك المجموع المتجانس وغير المتجانس في آن.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3649 - الأحد 02 سبتمبر 2012م الموافق 15 شوال 1433هـ
سياسة
كلامي جميل و منطقي لاكن استاذ اليس فية شئ من تغير المبادئ اليوم اللي كان عدوي اصبح صديقي و اللي كان صديق اصبح عدو بالنسبة عن الصين و السوفيات سبب موقفهم من القضية السورية انهم سيخسرون اخر حليف من الدول العربية
شام ياذا السيف
الشام محور الكون والحضارة الاولى وستنكسر غلى ابوابها سيوف الغدر والخيانة ببساطة لانها تملك مقومات الدولة والاهم تملك قيادة واعية وصلبه اما الدول الهلاميبه التى حاولت النيل من كرامتها فيبدوا انها بدات تعض اصابعها ندما
سترك يا رب
ماشاء الله .. كل هذا يصير بسبب سوريا .. معقوله
رقم4صدقت
والفال للأنظمة المتخلفة والتي بعضها حتى دستور ماعندها.
من يتحمل المسؤلية؟
لا شك أن أطراف متعدد تتحمل المسؤلية، لكن أقول كما أن بشار مسؤل، فإن جزء كبير من المعارضة مسؤل عن الأزمة في سوريا.
تحليل راق وعميق..
نشكر للاستاذ محمد هذا التحليل السياسي وكذلك اللغة العربية الراقية اذا ان بعض الكلمات المستخدمة أعلاه كادت ان تختفي من واقعنا اليومي..حبذا لو جمعت كل المقالات تحت دفة كتاب واحد
ايلا زائر رقم 4
زأر رقم 4 أراك متفأل أكثر من ألازم تأمل مرة أخرى فى المقال وأقرأ ما بين السطور تحياتى
سقوط الدولة العلوية
لا معقد ولا شي - عائلة الأسد الممثلة للدولة العلوية إنتهت وسقطت من صفحات التاريخ و سيعود الحكم الإسلامي إلى بلاد الشام .. الأمر بسيط ..
كما قال جورج كالاوي في الميادين
ثورة مدعومه من ماكين وليبرمان واسرائيل وبريطانيا وفرنسا وامريكا و و ............ هذه ثورة من اجل الخير هذا ما تريد ان تقنعي به ؟؟؟؟
thanks
nice artical
سلمت يداك
لله درك يا أخ محمد على هذا التحليل وعلى هذه اللغة الراقية
آخر ما يفكر به المتصارعوت الشعب السوري
لم يكن للشعب السوري اعتبار وهم يتقافون النار وسط الاحياء الغاصة بسكانها ولم يكونوا في حسبان من يزود هذا الطرف اوذاك بالمال و السلاح