ليس كل ذي صوت مرتفع صاحب حق. الظواهر من حولنا، العاقلة وغير العاقلة لها صوت وتأثير أيضاً. الزلازل... البراكين... موجات الجفاف... الحرائق التي لا تفسير لها سوى أن عود ثقاب الطبيعة (ارتفاع درجة الحرارة) كان من ورائها... السيول التي نتمنى حضورها في الجفاف والحرائق أيضاً، وبعد ذلك كله علينا ألاّ ننسى صرخات الذين لو فتشت عن دخيلتهم لن تجد غير «التبْن» و «التِتِن»!
قلت ليس كل ذي صوت مرتفع صاحب حق؛ لكن ذلك لا ينفي حقاً لدى بعض الأصوات المرتفعة. لا يبرز دور الأصوات ولا يرتفع إلا بعد ردم وطمر الحق في ذلك الصوت وضمن أدنى درجاته. ولأنه لا تحكّم للإنسان في حراك الطبيعة وثوراتها وتقلّباتها ومزاجها بحسب تعبير بعضهم؛ لا أحد يدّعي إمكانات التحكّم وإدارة ورصد توقيت مثل ذلك الصوت وما يُحدثه من أثر لا يدع للرخو والبليد والمنسجم في شكل شبه مطلق أي مجال كي ينعم بكل ذلك.
ثمة أصوات ترتفع أيضاً وربما تُصاب بحال من الصَرَع و «الزيران» للالتفات إليها. تريد الفائض مما يمكن أن تقتات عليه. تريد أن تمتاز عن البهائم على طريقتها الخاصة. تصرخ لا من ألم ولا من إجحاف ولا من ضيْر طالها. تصرخ لتكون مصدر اهتمام متطلّعة إلى ما يمكن اغتنامه وما يمكن أن يصبح مصدر اتكاء ومصدرا وملاذا يمكن ابتزازه بهكذا صرخات لا حسّ فيها، ولن يتجاوب ويتعاطف معها إلا الذين من طينة الابتزاز نفسها.
وثمة صرخات بوزن الريشة وأخرى بوزن الذبابة وصرخات ثالثة يمكن قياسها هذه المرة على ميزان «ريختر». صرخات لا تتأتّى لها تلك الدرجة إلا بعد إدمان صمت تم التعويل عليه وحكمة هي في الأرذل من العمر وخَرَفه. صرخات لا تكتفي بذلك. هي بمثابة عنوان خيار ومصير له كُلَفُه؛ ولا يهم بعد ذلك إلى أين تؤدي بها تلك الكُلَف.
ثم إن صرخات الضحايا لا يُمكن أن تقاس وتُقارب بصرخات الذين وجدوا في هذه الحياة لإنتاج واستمرار ذلك النوع من صرخات الألم بمصادره التي لا تقوى الجمادات على تحمّله أو التصالح معه. صرخاتٌ مثل تلك لم تجلبها الصُدْفة ولم تتدخل فيها الكوارث الطبيعية وما ينتج بعدها من آلام ودموع وصراخ. إنه ألم من نتاج بني الجنس نفسه. صرخات لن تستطيع إسكاتها منظومات وخبراء عابرون أو منتدبون والمصالحات التي لا تخلو من مناورة ومؤقتة.
وعلينا ألاّ ننسى في المقابل صرخات نابعة من سكون حياة واستسلامها وإذعانها حد مبايعة الخيبة والتواطؤ مع كل انهيار واستسلام وخراب؛ وصرخات في محصّلتها ودأب الذين من ورائها تحدث فارقاً مُلفتاً في حياة الإنسان وتفاصيل تلك الحياة.
نعلم أنه ليس كل صرخة تُحدث فعلها وتأثيرها وتسجّل زمنها وموقفها الفارق؛ لكن نعلم أيضاً أن الصمت لدى أصوات مُنتهبة ومُستولى عليها ومُسمّمة، لن تُحدث أدنى فارق والإنسان مغمض العينين يمكنه أن يكون واثقاً من ذلك.
استقبلنا الحياة جميعاً بالصرخة، وفي خضمّ حركتها لن نستغني عنها. كأنه الحنين لأداة تعبيرنا البدائية والأولى. الأداة الأولى في التعبير ليس بالضرورة أن تُركن جانباً ويتم التعالي عليها. يمكن لنا العودة لأدوات تعبيرنا التي كانت بدائية وبسيطة. تلك البدائية والبساطة تمنحنا في كثير من الأحيان حصانة وثقة ودافعاً إلى ما نحن في صدده. إلى ما نتطلع إليه، في واقع يبدو أنه استنفد كل أدواته وما توهّم من حصانات!
كأن الصرخة؛ بل هي كذلك، احتجاج على واقع مستسلم لخلله. الاستسلام للخلل احتضار وموت من نوع آخر. موت مذل ببطئه. موت يتجرّع صاحبه أكثر من موت وأكثر من تأكيد لتفاهته في الوقت نفسه!
تظل الصرخة موقفاً. موقفاً مما يجري حول كل منا. هي نصّ يولّد قواعده وأسسه بالتزامن معها. قواعد متحرّكة لا تلتزم الجمود وليست على وفاق معه.
والذين يكتمون أو يؤجلون صرخاتهم لاعتبارات يرونها ويقررونها، مُعرّضون إلى الموت كمَداً. ليس شرطاً أن يكون في هيئة الموت الذي نعرف بكل معانيه وصوره وانفصاله عن الحياة وحركتها. إنه موت يتنقل معهم وهم «أحياء» أو شبه أحياء. ثم إنه ليس كل كتم أو تأجيل للصرخة يذهب في هذا المنحى أو الاتجاه من المعنى المذكور. ثمة صرخة تتطلّب تأجيلاً؛ لأنها تظل محكومة بتوقيت إطلاقها والمكان، على ألاّ يكون مثل ذلك التأجيل سنّة وطريقة حياة وتواؤم مع كل صور التجاوزات والخلل الذي يحيط بالحياة ويحاصرها ويشوّه قيمتها ليمتدّ ذلك إلى الإنسان نفسه.
يصرخ كل منا تبعاً لحجم ألمه وأمله الذي يتوخى. لا أحد بمنأى عنهما اليوم. لا أحد بمنأى عن الأمل ولن يكون إنساناً حين ينأى وينفصل عن الأمل.
ويمكن لصرخة أن تتحوّل إلى تلوّث بيئي، ويمكن لها أن تُعيد صوغ البيئة التي يتحرّك فيها الإنسان ويحيا؛ بالأثر والنتائج التي يُحدثها على الأرض وما يمتد من خلالها إلى الإنسان، انعكاساً على واقعه المزري ودوره المعطّل.
كأن الأزمنة تظل محتبسة في حركتها، والأمكنة منكفئة على نفسها، والبشر لزوم العامليْن (الزمكان) من دون أداء دوره (الإنسان) في الاحتجاج، ومن دون أن يجرؤ على إطلاق صرخته أمام ما يشوّه الحياة وتجنيب الأخذ بها إلى الدَرك الأسفل من العطالة واللاجدوى.
وهل نبالغ في القول: إن بيننا اليوم من لا يخجل من الصراخ احتجاجاً على تقلّص التجاوز ومحاولات خجولة للحد من الخلل. مثل أولئك لا يتنفسون ولا يعرفون للنمو والتكرّش طريقاً إلا في بيئة وواقع بتلك المواصفات.
الفيصل في الصرختين: صرخة تحتج على التجاوز والخلل، وصرخة تطالب بالمزيد منهما، هو الإنسان وخياراته بين الاثنتين.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3649 - الأحد 02 سبتمبر 2012م الموافق 15 شوال 1433هـ
يا مظلومين العالم اصرخوا
باختصار أنا أصرخ أنا موجودزمن هعارى فى هذا الزمن
وصول من لا يصلح لمكان لا يحلم به يجعله يصرخ ضد اي تحرك
إن اي تحرك اصلاحي يعني بالضرورة اصلاح الخلل ومن الامور التي يجب اصلاحها هي اعطاء المناصب لاهلها
لا من حصل عليها بطريقة غير شرعية
ومن حصل عليها بطريقة غير شرعية سوف يرى ان كل اصلاح يمس مصالحه لذلك هو يصرخ خوفا على مصالحه الضيقة