لكي لا أنسى. لكي لا تنسى، ولا تنسيا ولا ننسى، ولا تنسَوْن ولا ينسِيْن. لكلنا جميعًا أقول: لا يحسب أيُّ فرد، ولا أية جماعة، أو عشيرة أو قبيلة ولا أيُّ شعب، ولا أية طائفة، ولا أيُّ دين أن العالم خلِقَ من أجله، وأن الفلك يدور مداره هو لا غير، وباقي البشر والأديان والشعوب أرقامٌ زائدة عن الوزن والحاجة. هذه الأرض، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها حق لكل مَنْ يعيش عليها. عمَارتها كانت على أيدي الجميع لا حصر في ذلك ولا تخصيص. والمنطق يقول باستحالة أن تَعْمر الأرض بغير الجميع، بمن فيهم الشعوب الأوليَّة، وشعوب الهنود الحمر، وأدغال إفريقيا.
العلوم بشتى أصنافها الطبيعية والاجتماعية والسلوكية والتطبيقية والتجريدية والإنسانية والشكلية والإدراكية كان للجميع حصَّة فيها. وإذا ما أراد أحدٌ أن يتصلَّب في ذاته لينكر ذلك على الآخرين، فعليه أولاً أن يحجب ضوء الشمس بغربال إن استطاع. صحيح أن هناك تفاوتاً في الإنتاج العلمي والفكري بين البشر، لكن ذلك لا يمنع أصل التشاركيَّة بين الجميع في الإنتاج الإنساني بصورة عامة. وربما وقف الفيلسوف كلود ليفي شتراوس في مداراته الحزينة، على جزء هام من تلك النتيجة. فنظرة الأديان والطوائف والشعوب لبعضها يجب ألا تخرج عن نطاق الإنصاف والاحترام المتبادل والواجب.
فمن لايزال يُلبِس أهل السُّنة الموبقات والمخالفة والنصْب، فعليه أن يمسح من ذاكرة الأمة، تراثها الفكري والفقهي والعلمي والسياسي، الذي حمله منهم جهابذة في الفقه والحديث، فتأثر بهم كافة علماء المذاهب الإسلامية الأخرى، وبلا استثناء. وربما نستحضر هنا الفقيهيْن الإماميّيْن الشيخ المفيد والعلامة الحلي، اللذان تعلما وتأثرا بعلماء أهل السُّنة حينها في كثير من العلوم، ليس آخرها أمور الاجتهاد. كما أن عليهم أن يستحضروا الفتوحات الإسلامية التي وصلت إلى حدود الصين وأوربا، والتي قادتها الدولة الإسلامية والتي هم كانوا على رأسها. على المنكِرِيْن للسُّنة، أن يذيبوا أحبار وقراطيس الموسوعات العلمية التاريخية والقرآنية والتفسيرية والتدوينية للعلماء والمؤرخين السُّنة العظام.
ومَنْ لازال يعتقد بأن الشيعة روافضٌ سَبَئِيُّون أخَّروا من تقدم الأمة، فعليه أن يمسح من ذاكرته ما قدمه علماء الشيعة كـعطاء بن أبي الأسود، وابن أبي سارة الرواسي الكوفي، وحمران بن أعين، وأبي عثمان المازني وقتيبة الجعفي الكوفي، والخليل بن أحمد البصري الفراهيدي الأزدي، وأبان بن تغلب بن رباح الجُرَيري، وأحمد بن أبي يعقوب بن واضح اليعقوبي، وجابر بن حيان، وقطب الدين الرازي والشيخ الرئيس ابن سيناء من علوم وتراث إسلامي وفلسفي وطبي غزير، وأن يمسح من ذاكرته جهاد الحمدانيين لجيوش الروم، وفي التصدي للغزوات البيزنطية المعادية على بلاد المسلمين.
ومَنْ لازال يعتقد أن الأباضية فرقة خارجيَّة ضالة، فعليه أن ينسى التابعي جابر بن زيد الأزدي، والوليد بن كثير المخزومي، وأبا بلال بن حدير، والربيع بن حبيب الفراهيدي وأبا غانم الخراساني، وعليه أن يزيل من التاريخ الدولة الرستمية الأباضية في تاهرت بالشمال الإفريقي، وما قامت به من نشر للإسلام في تلك المنطقة، ثم حمل الأباضية الدعوة لشرق إفريقيا والهند والصين على يد أبي عبيدة الصغير منذ القرن الثاني الهجري، وصولاً إلى جزيرتي جاوة وسومطرة الإندونسيتيْن، ثم طرد الأباضيين للاحتلال البرتغالي من عُمان والمنطقة، إبان عهد الإمام أحمد بن مرشد اليعربي.
ومَنْ لازال يعتقد أن الفرس مجوسٌ أنجاس دمَّروا الحضارة الإسلامية وأفسدوها، فعليه أن يعي ويقرأ بأن أبا حنيفة النعمان الواقدي والإمام الشافعي ومحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري ومسلم ابن الحجاج القشيري النيسابوري والفيروزآبادي وسليمان بن الأشعث السجستاني والنسائي وابن ماجة والبيقهي، وأغلب روَّاد التصوف وعلمائه المؤسسين كانوا من الفرس. بل إن تسعين بالمائة من علماء المسلمين هم من الفرس كما ذهب البعض. وأن كبارًا من قادة الإسلام قد تصاهروا مع نساء الفرس بعد الفتح، وأنجبوا منهم أئمة وعلماءً كبارًا.
ولكل مَنْ يختزل خير الأمم في نفسه وقومه، كنزعة منه لتأثيم المسيحيين واليهود وبقية الأديان، فعليه أن ينسَى هذه الحضارة، سواء في الشرق أو الغرب، وما أنتجته من ثورات سياسية واجتماعية وعلوم وأفكار وفلسفة، ونظم للحكم، وتطور تقني هائل. عليه أن ينسى غاليليو غاليلي وبول نبيكوف، وفارنزورث وجون بيرد، وفلاديمير زوريكين، وألكسندر بوبوف، وغوليلمو ماركوني، ونيكولا تيسلا، وأنتونيو ميوتشي، وغراهام بيل، وروبيرت بويل، وجوهان تزان، ولويس داجير. وعليه أن يلغي فلاسفة العصر الحديث الكبار، كجارك روسو وآرثر شوبنهاور، وبول فاليري، وجون ستيوارت ميل، ولودفيغ فيتغنشتاين وفرانسيس بيكون وغيرهم بالآلاف.
نحن اليوم، أمام فَوَرَان شوفيني جاهلي، بات البعض يعتمره ويرقص عليه، في الانتصار إلى الذات بشكل أعمى، ومحق كافة الأغيار. في حين، أن العقل والدين والأخلاق يحثون على ضرورة أن ينظر الجميع إلى الجميع بإيجابية لكي لا يعيشوا أزمات دينية واجتماعية وحضارية مفتوحة، ويكونوا أسرى لهرطقات الماضي، الذي وصلنا وهو مُشوَّه، وقد انصرمت سنونه وأيامه وساعاته، ولم يبق منه إلاَّ الأطلال.
على الجميع أن يُنصفوا بعضهم، ولا يبخس أحدٌ أحدًا. فالحضارات تنعقد نطفتها وتولد وتنمو وتزدهر وتموت وتأفل وتتحجر كما قال توينبي. وبين هذه المراحل، تاريخ وأحداث مهمَّة، كان للجميع فيها دور. وعندما يخطأ أحدٌ في تلك الأحداث، فإن الوزر يكون من نصيبه هو ولا يتحمله القوم كلهم، وإلاَّ أصبحنا في هرج ومرج لا ينتهي حتى الساعة.
كلمة السلام والإنصاف وعدم البخس واحترام الآخر، لسنا في حاجة لإدراك معانيها اللغوية فقط، وإنما معانيها الأسمى هي في الممارسة والموضوع، والشعور بها روحًا لا خيالاً. فالفضيلة ليست في أن نجتنب الرذيلة فقط، بل في ألا نشتهيها كما قال الأديب الايرلندي جورج برنارد شو.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3647 - الجمعة 31 أغسطس 2012م الموافق 13 شوال 1433هـ
علي نور
استاذنا الفاضل .. قال السوريون من زمان انهم يتعرضون لحرب كبرى فانكرت عليهم قولهم، وقالو ان مسلحي الجيش الحر يهجرون الناس في حلب وحمص فاتهمتهم بالكذب حتى في نشرات الاخبار ، وقالو انهم بصدد انشاء نظام ديمقراطي فشبهتهم بالقدافي مبارك ، ودعو للحوار في بلدهم فرميتهم بالفشل والهراء ، وسعو للدفاع عن شعبهم فقذفتهم بالارهاب والنرجسية والشوفينية ، سوريا سوف تبنيي قريبا نظاما ديمقراطي يحرج كل تركيا وكل الانظمة التي رعت ومولت الارهاب . في ذلك الوقت نحن ننتظرما ذا تقووووووول ؟؟
جميل
فالفضيلة ليست في أن نجتنب الرذيلة فقط، بل في ألا نشتهيها كما قال الأديب الايرلندي جورج برنارد شو
ولد التاجر
الحق ان جميع المذاهب الاسلامية قدم وساهمت في
التقدم لجميع العلوم في النهضة الاسلامية ولكن حنما نشغلنا في عقد المؤامرة من الجميع اصبحنا
خارج الحاضرة مجرد مستهلكين علوم الغير يجب
الاستفاده من ايجابيات الغرب ونبتعد عن السلبيات هذا هو العقل ياخوان مع الشكر الجزيل
الى الاستاذ على هذا الموضوع جيد
الى كل الطائفيين اهدي هذا المقال
نحن بحاجة ماسة الى هكذا نفس في كتاباتنا لكي نحرر عقولنا من كل القيود الوهمية عن الانفتاح والاندماج ببعضنا البعض ونبني حضارة انسانية. بارك الله جهودك يا أستاذ محمد
شكر وتقدير
احسنت المقال ووفرت النصيحة فجزاك الله خيرا وبصيرة