يشهد العالم في عصرنا الحاضر حركة متنامية في أبحاث ودراسات علم اجتماع الرياضة من منظور إنساني وحقوقي، ويبرز ذلك واضحاً في اتجاهات واهتمامات الأفراد، كما يبدو واضحاً أيضاً في توجهات الدول والحكومات ومنظمات المجتمع المدني؛ بل وينظر للمنجز الرياضي على المستوى العالمي باعتباره أحد المؤشرات التي يمكن من خلالها قياس مستوى التقدم الاجتماعي والثقافي للمجتمعات.
وأرغب هنا أن أبرز الدور الإيجابي للحراك الإنساني غير الملحوظ من قبل منظمات المجتمع المدني في الحفاظ على نبل الأهداف التي تأسست من أجلها الألعاب الرياضية، وكيف أن هناك اتجاهاً جديداً آخذاً في التصاعد جعل غايته أن يوظف الرياضة لصالح الإنسان.
فعندما نتتبع على سبيل المثال حركة الرياضة للجميع (Sport for All) فإننا سنرصد بوضوح حجم البعد الإنساني لهذا الاتجاه حيث تتصدى هذه الحركة (التي انطلقت من أوروبا) للأفكار التي ترى أن تقتصر ممارسة الرياضة على أصحاب القدرات البدنية العالية، وتدعم فكرة إشراك الفئات المحرومة كالمرأة (كما هو الحال في المجتمعات العربية) وكبار السن، وأن تشمل الرياضة جميع السكان، حتى أولئك الذين يقيمون في المناطق البعيدة عن المدن الكبرى كأهل الريف، والبدو، والمناطق الرعوية، والمعاقين.
وقد استطاعت منظمات المجتمع المدني أن تفرض على الحكومات دعم الرياضة مادياً وأدبياً تماماً كما تدعم التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وتساير هذه الحركات المؤسسات ًالرياضية الحكومية،ولا تتعارض معها.
فقد قامت في ألمانيا حركة اهتمت بمن تخطوا سن الرياضة التنافسية أطلق عليها اسم الطريق الثاني (The second way) وقد تعمدت الحركة إشراك أكبر عدد ممكن من الطلاب الفقراء والعمال عبر مسابقات الجري المفتوح للجميع. كما ظهرت في أميركا حركة الترويح للجميع واتخذت عدة أشكال منها الهرولة في الطرقات Jogging وهكذا انتشرت هذه الفكرة عالميا ً بفضل جهود المنظمات الأهلية الغير حكومية.
نعم في المجتمعات الاستهلاكية يقوم الناس بتقليد نفس الأفعال دون إدراك أن هناك جهداً جماعياً وحراكاً إنسانياً يتم بناؤه على أهداف مقصودة حتى أصبح من المألوف مشاهدة الأفراد من الجنسين يهرولون في الطرقات الجانبية، وعلى شاطئ البحر، وفي الحدائق، وفي الصباح الباكر، وقبل مغيب الشمس. وفي هولندا ظهرت حركة مشابهة أطلق عليها حركة تشكيل أو تهذيب الجسم (Trim action) وكانت تهدف إلى خدمة القرى البعيدة عن خدمات المدن. وفي إسبانيا ظهرت حركة التمرينات المتحركة حيث تجري السيدة ومعها طفلها في عربة الأطفال فلا تعيقها تربية الأبناء عن حقها في التدريب واللياقة. وفي السويد تم ابتكار فكرة الجواز الرياضي (Sport Passport) والذي يسمح لحامله بممارسة الرياضة مقابل مبلغ زهيد أو رمزي بغض النظر عن السن والجنس.
وقد ذهبت هذه الحركات الإنسانية كذلك إلى فرض رقابة حقوقية من خلال اعتبار الرياضة إحدى قنوات العمل المهني (للأقليات) لإكسابهم حقوقهم وإعطائهم مكانتهم الاجتماعية التي تليق بهم؛ فالسود - على سبيل المثال - كانوا يعانون الاضطهاد في جنوب إفريقيا العنصرية وأميركا إلى عهد قريب حيث يتعرضون للتمييز والتفرقة، خصوصاً فيما يتعلق بحقوقهم في التمثيل الرياضي لبلادهم مما دعاهم إلى الهجرة واللعب تحت أعلام دول أخرى.
وتفوق الأقليات رياضياً من الظواهر الجديرة بالدراسة، حيث وسعت الأقليات من أداءاتها الرياضية إلى آفاق أبعد بكثير من حجمها الاجتماعي، وهذا يذكرنا بحديث أستاذ الجيل الواعي المرحوم السيد محمد حسين فضل الله عندما قال: «على الأقليات أن تعوض قلتها بالجودة». ويمكننا -على سبيل المثال - ملاحظة تفوق الأقليات الهندية في زيمبابوي وجنوب إفريقيا، وكذلك تفوق الأقليات المسلمة في الإتحاد السوفياتي في رياضة المصارعة.
والمعركة بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني لم تنتهِ بعد! لماذا؟
لأن هناك توجهاً خطيراً يعمل على تشويه الرياضة وتحويلها من وسيلة للترويح والتواصل بين الشعوب إلى صناعة مالية، ومصالح متشابكة للشركات التجارية. ويمكننا القول إن الألعاب الأولمبية حافظت على أهدافها وصمدت أمام محاولات إخضاعها للغة المال كما صمدت طويلاً ً ضد فكرة (تسليع الرياضة) أي تحويلها إلى سلعة كالاحتراف وممارسة الرياضة من أجل المال؛ لكنها - للأسف - رضخت أخيراً وسمحت بقبول الاحتراف.
هذا الحذر من الرأسمالية الأميركية البشعة يذكرنا بحركة (احتلوا وول ستريت Occupy Wall Street) حيث يعترض المحتجون في الحركة على تلك القلة من الأثرياء التي تستحوذ على المال والسلطة ويقول المحتجون إن هناك في أميركا (400) فرد يملكون أكثر من نصف الثروة كما تقول الحركة نفسها إنها حركة التسعة والتسعون 99% في المئة مقابل 1% واحد في المئة من أصحاب الثروة والنفوذ وتدعو إلى توزيع أكثر عدالة للثروة.
حركات المجتمع المدني لها العذر في أن تتوجس خيفة من الرأسمالية الوقحة؛ فرغم أن كرة القدم هي لعبة العصر؛ إلا أن لاعبيها من الفقراء والمعدمين، ففي قائمة ضمنتها مجلة (الإيكونوميست) في دراسة عن الرياضة العام 1997 م يتبين أنه لم يكن ضمن قائمة الأغنياء لاعب كرة قدم واحد! مما يعني أن اللاعبين الفقراء مرتع خصب للتجارة الدولية بالبشر.
والجميل أنه على هامش فعاليات دورة الألعاب الأولمبية المقامه في لندن 2012 استطاعت الجمعيات غير الحكومية أن تفرض عقد مؤتمر حول المجاعة في العالم. وجاء في الرسالة التي أشرفت على تحريرها جمعية (أنقذوا الطفولة) الخيرية «تمثل دورة الألعاب الأولمبية فرصة نادرة لتغيير مستقبل ملايين الأطفال حول العالم، خاصة وأن أعين المليارات من بني البشر مصوبة نحو لندن التي يتجمع فيها العديد من زعماء العالم». وفي لفته إنسانية غاية في الروعة عبر عدد من نجوم أولمبياد لندن 2012، عن دعمهم لحمله تهدف للقضاء على سوء التغذية في الدول الفقيرة، وذلك في رسالة مفتوحة قبيل افتتاح نفس المؤتمر.
وهكذا يستمر الحذر والمواجهة الخفية بين الجمعيات الإنسانية وبين فكرة (تثوير المال والأعمال) حتى لا تتحول الرياضة من وسيلة للترويح والمنافسة الشريفة إلى مصالح متشابكة للشركات العملاقة التي تدفع الملايين مقابل الإعلانات ومقابل حقوق النشر التلفزيوني حيث دخلت بعض الأندية إلى البورصة على فرضية أنه كلما زاد دخل الأندية ارتفعت مرتبات اللاعبين.
وعليه فالحركات والمنظمات الإنسانية لا ترغب أن تنتهي الرياضة إلى نفس ما انتهت إليه بعض الأنشطة الإنسانية الأخرى. ولكن هناك إصراراً على أن الرياضة كما بدأت بأهداف نبيلة وشعارات جميلة في سبيل الترويح والهواية، ومن أجل توطيد العلاقات بين الشعوب فإنه يجب عليها أن تستمر كذلك.
نحن جميعاً في حاجة إلى تقييم المسيرة؛ ليس من أجل الحكم عليها فقط، بل من أجل فهم ما يجري، ومحاولة أن نكون فاعلين في الحراك الإنساني لا متفرجين سلبيين؛ لكي نساهم في رسم مستقبل زاهر للبشرية. والشباب اليوم مدعوون ليس لمعرفة اللاعبين من أمثال مردونا وبيليه، ولا أن سعر اللاعب البرازيلي رونالدو 30 مليون دولار... الخ.
بل هم مدعوون مع ذلك أيضاً لمعرفة أن هناك وجهاً آخر للرياضة ينبغي أن يتعرفوا عليه عبر شعار البارون الفرنسي المتوفى العام 1936م (بيير دي كوبرتان) مؤسس الألعاب الأولمبية ومصمم رموزها (كالعلم والشعار) وهو نفسه الذي كتب القسم الأولمبي (وهو قسم تربوي يحلف به الرياضيون عند الافتتاح ) وهو المصلح الاجتماعي والذي ترك في فرنسا أكثر من 15 ألف صفحة من الكتابات التربوية، والذي أوصى بدفن قلبه في مدينة أوليمبيا.
وهو من أكد على إدخال الرياضة في المدارس، وأن تستخدم القفازات في الملاكمة، وهو أيضاً باعث الألعاب الأولمبية من مرقدها، والذي يحلو لنا أن نختم بنص كلمته الرائعة التي تهذب الصراع والمنافسة بين البشر والشعوب حين قال: «أهم شيء في الألعاب الأولمبية ليس الانتصار بل مجرد الاشتراك، وأهم ما في الحياة ليس الفوز بل النضال بشرف».
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 3647 - الجمعة 31 أغسطس 2012م الموافق 13 شوال 1433هـ