«أوصيك الليلةَ أنْ تنام في علبة كبريت تناسب حجمك، اصنع من أعوادها سقيفةً للكتابة القادمة، وإذا تذكرتني، أشعل العلبة لتختبرَ خاصيةَ الحرائق»
تذكرّتك اليوم مع الأسف، مع ابتسامةٍ خفيفة وغامضة، ومع الأسف لا أدري لماذا؟، هل لأنك قلتَ لي مرة:
«من أجل أنْ تحافظ على نظافة أخلاقكَ، لابد أن تكون جامع قمامة في مدينةٍ تشبهك».
ضحكنا كما لو كنا نؤلف الموسيقى ...
أي موسيقى هذه التي لا تخلع علينا الجهات؟ وأي بطش هذا الذي يُجلسنا أمام النول، عندما يحين وقت الموت، فلا نجد أحداً يموت معنا.
محظوظ أنت يا صديقي، على الأقل لديك فرصة أنْ تخرّب كل شيء.
الذات المتحولة/ الذات الضائعة التي تحدثت عنها في «شماليات» والتي كانت بمثابة الاحتماء تحت مظلة البناء الخيالي، حتى لا تضيع تحت وطأة الذات المشروطة بحضورها الوجودي.
كنتَ رائعاً، ورائعاً جدّاً عندما أضأت المساحات المعتمة وجدانيّاً، في الذات المتحولة/ الذات الضائعة، من تواصل الفرضية المتسلطة وإلاَّ كانت كلها تبقى رهينة أبدية، بدون الاقتراب منها بالتشكيك أو النقد، وهذا ما أشرت إليه ويحدث لذواتنا بالضبط، وما هو ألعن على إنسانية وعي/ اللاوعي، الإكراه / الانحراف غير المخطط له / حقارة الأهواء/ طيبة الإرادة/ شدة الصراع، وهذا الذي يدفع بنا إلى اللعنة وإلى شيوع الهاجس السلطوي، أو لا جدوى من محاولات تشكيل وحدة جمال ضمن مجموعة رؤى تتولد منها دهشة خاصة في تحديد معنى الحداثة وخاصة عندما اصطدمت برأيك مع فكرة التقمص للذات الضائعة التي تعيشها المجتمعات باتفاق مُعد سلفاً حول كل ما هو قبيح، والرضا عن الاستياء.
أيها المنحطون والمنبوذون والحقراء
تغمرون بعضكم بعبارات الأدب
أمام هذه الشرفة
بدون خجل
الهواء صبيٌّ صغير وجاف
كلبٌ مهووسٌ بالقمر
لا يؤذي أحداً
يتقدم ببطء
ناسفاً بذلك فكرة الماضي العاطفي عند فولبير، تلك التي يعيشها المجتمع على ذاكرة الدين، السياسة، الإيديولوجيات وهي التي تحكّمت في عدم إطلاق رؤى جديدة ورؤى مضادة، أي عدم الاتكاء على منهج فلسفي جديد وواقع ليس نقيضاً تريد تدميره، أو تجاوز الحداثة التي كانت بتأثير واضح من نيتشه وفرويد إلى ميشيل فوكو الذي أوغل في نقدها بجانب مثقفين متعفنين يحاربونها ويصفونها بالاحتقار.
كما أنك كنتَ معارضاً لجان بول سارتر حول تصوارته لتساؤلاتٍ لم يتم إنجازها على مستوى وعي اللاوعي.
معنى ذلك أو ما فهمته أننا نطلق المعرفي/ التفكيري، والانفتاح على الذات / الآخر دون الإعادة لمرجعية الرؤى التي تُغذي مساحة اللاوعي عكسيّاً، وبهذه الطريقة فإنَّ مغزى كلامك، أنْ نمتنع عن التفكير العفوي مما يؤدي بنا إلى الانفصال، «كالكتل الجليدية»، حينما ينقطع منها طرف ويبتعد عنها بعنف ويعود ليلتحم بها، نكون نحن خلال هذه المسافة انقطعنا عن المحيط المادي أو العفوي المقدس وخرجنا من الحداثة بشكل مهين، وبعدها نناقش الكلاسيكية والشكلانية وعلاقتهما بالحداثة، أو نتفرغ للمقارنة بين علاقة طه حسين بفرنسا والمرأة التي بصقت في وجه وزير الثقافة، وتُصبح أزمة لنناقشها، جزءٌ منا يمدح الفراغ وجزءٌ آخر مندهش بأنوار السباق، عامةً كله خير.
إنما لو عدتُّ بك إلى الانكفاء على الحداثة، والتي تتعامل الآن رؤيويّاً على زواتين ومفصل من الجلد العام، حتى يتم تفريغ الذات ليس كلِّيّاً، ولكن بشكل أرستقراطي بحيث يتم تخليص المسافة الملتصقة بين حافتي وعي اللاوعي / وذات اللاذات في الأخلاق، ومن ثَمَّ يُكرس تداولها الخاص والاحتماء بها من النموذج المعقلن والتحول بها إلى ما وراء الحداثة، على أنه الحضور الخالد في الحالي، ونضطر للدخول التدريجي التام في عملية إلغاء المعنى كما وصفه بودلير.
إذن كنتُ صغيراً، عندما تمنيت أن أكبر، لكي أحصل على ربطة عنق، لكن البحر لا يرتدي ربطات عنق ولا يقف عند البوابة طالباً بطاقةَ دعوة، وعندما كبرت... وجدت نفسي غير صالحٍ لأي شيء... فهل أصلح الآن لمهنةِ حلبِ الأبقار في مزرعة؟
شاعر وكاتب مصري
نبيل أبوزرقتين
العدد 3647 - الجمعة 31 أغسطس 2012م الموافق 13 شوال 1433هـ