العدد 3646 - الخميس 30 أغسطس 2012م الموافق 12 شوال 1433هـ

فرادة المحرقة... المسوغات مقلوبة

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

ارتبطت ظاهرة «العداء للسامية»، ببلدان أوروبا الشرقية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، بهيمنة اليهود على المفاصل الاقتصادية في تلك البلدان، فقد رأى الأوروبيون أن من أهم أسباب بؤسهم هيمنة كبار رجال الأعمال اليهود على المصارف وأسواق الذهب والمحال التجارية الكبرى. وكان من نتيجة هذه المشاعر الغاضبة انتشار الكراهية لليهود في عموم أوروبا، وقد ساعد على ذلك انكفاء الجماعات اليهودية على ذاتها، ورفضها الاندماج مع المجتمعات التي تشاطرها العيش، واختيارها العيش في غيتوهات خاصة بها.

وقد دفعت هذه الحالة بعدد من المفكرين اليهود، في مقدمتهم ليون بينسكر الذي أصدر في العام 1822 بياناً تحت عنوان «الانعتاق الذاتي لليهود»، طالب فيه أتباع الديانة اليهودية، بألا تقتصر أنشطتهم على مجالات المال والتجارة، لأن ذلك يفقدهم احترام الناس. دعا بينسكر اليهود إلى الانخراط والاندماج بالمجتمعات في البلدان التي يعيشون فيها، من خلال الارتباط بالحركة العمالية والقوى المنتجة، والمشاركة في حراثة الأرض والتركيز على الزراعة. لكنّ هذه الدعوة ضاعت في مهب الريح، ولم تلقَ آذاناً صاغية من قبل قادة اليهود في المجتمعات الأوروبية. خلال الأزمات الاقتصادية الحادة التي مرت بها أوروبا قبيل الحربين الكونيتين، الأولى والثانية، حمّلت النخب الأوروبية المسيحية اليهودَ مسئولية الأزمات الاقتصادية التي مرت بها بلدانهم. وحين تسلّم هتلر السلطة في ألمانيا، لم يبتدع أمراً جديداً تجاه اليهود، فحالة العداء غدت مترسخة، والأجواء الاجتماعية جاهزة للمجازر التي ارتكبتها النازية بحق اليهود.

ولم يغفر للطبقة الأرستقراطية اليهودية ما حلّ بها من نكبات مثل «الهولوكست»، أثناء الحرب العالمية الثانية. فقد بقيت حالة العداء قائمة، ولكنها غلّفت بمشاعر إنسانية، وبدعم مفتوح وغير محدود للحركة الصهيونية. وكان شعار العمل على تأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين يحمل معنى آخر، متضمناً، خلاصته ارحلوا عن بلادنا وسنقدم لكم المساعدة، لكن في مكان آخر بعيد عنا... ترجمة أخرى لعداء متأصل لمن اعتبروا في العقل الجمعي الأوروبي سبباً لأزمات أوروبا الاقتصادية.

مفارقة غريبة أن تكون أزمة أوروبا الاقتصادية سبباً في «الهولوكست»، وأن تكون أزمة الكيان الصهيوني الاقتصادية الحالية سبباً في سلوك فردي انتحاري، بإشعال النار، وأن تتكرر حالات الانتحار بذات الطريقة، والجلاد هذه المرة ليس النازية، ولا مكان لجدل التفوق العرقي والجنس الآري في ما يجري الآن داخل الكيان الصهيوني. الصحيح هو القول إن الأسباب معكوسة تماماً، عن تلك التي ذكرت من قبل النازيين لتبرير «الهولوكست».

في الحالة الأولى، اتهم اليهود بتفجير الأزمات الاقتصادية الأوروبية، وسادت ما عرفت بموجة العداء للسامية. وما يجري الآن، مختلف تماماً، فالقضية تتجاوز المجالات الاجتماعية والاقتصادية، لتمسّ الأسس الأيديولوجية والسياسية التي استندت إليها الحركة الصهيونية.

إن أسباب تصاعد العمليات الانتحارية، هي ذاتها التي أشعلت الثورة التونسية، حين أشعل الشاب محمد البوعزيزي النار في نفسه، احتجاجاً على افتقار بلاده إلى العدالة الاجتماعية. وقد أدرك الذين شاركوا في المظاهرة التي انطلقت بتل أبيب في 14 يوليو/تموز الماضي هذه الحقيقة، فقد اعتبروا التنديد بالظلم الاجتماعي في الكيان الغاصب مبرراً لتظاهرهم، ولم يترددوا في تسمية «موشي سلمان» الذي أضرم النار في نفسه بـ «المشعل الحي». ووصفت الصحافة «الإسرائيلية» هذا السلوك بأنه لهيب إنساني. وأمام منزل رئيس الحكومة، نتنياهو هتف المتظاهرون «كلنا سلمان، لقد أحرقتنا كلنا... يابيبي». ولم يجد بعض المحتجين حرجاً من رفع لافتات كُتِبَ عليها «الثورة الآن».

وبعد وفاة موشي في المستشفى، ردّد المتضامنون معه في مظاهرات تتقدّمها «مشاعل»، أنّه قدّم نفسَه قرباناً في مواجهة الظلم الذي تمارسه السلطة الحاكمة بحق الناس. وكانت شهادة سلمان قبل إضرام النار في نفسه قد حسمت الجدل في أسباب حرقه لنفسه. فقد اتهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير المالية يوفال ستنيتز بإهانة «الإسرائيليين» الذين تحملوا الكثير من المشاق اليومية، وقد رأى الكثير من «الإسرائيليين» أن حكومتهم تأخذ ما لدى الفقراء من الكفاف، وتقدمه للأغنياء واللصوص.

هذه الأوضاع الاقتصادية المزرية، التي تبدو غريبة على المجتمع الاستيطاني الصهيوني ذي الكثافة السكانية المحدودة التي لا تتجاوز بضعة ملايين من البشر، تكمن في جوهر الفكر الصهيوني القائم على نفي وجود السكان الأصليين واغتصاب أراضيهم وممتلكاتهم. وتعود بنا إلى الطريقة التي نشأ فيها الكيان الغاصب التي استندت إلى سرقة الأراضي الفلسطينية وتشريد شعب فلسطين، باستثمار ذكي لعلاقة الصهاينة مع القوى العظمى التي كان لها الدور الأساس في فرض قرار التقسيم، ودعم الكيان الصهيوني منذ لحظة تأسيسه حتى يومنا هذا.

انعدام العدل الاجتماعي، إذن، واقع متأصل في العقيدة الصهيونية، وما يجري الآن لا يمكن وضعه خارج سياق محددات هذه العقيدة، والتحالفات الدولية التي مكنت الصهاينة من حيازة فلسطين. لقد استندت الحركة الصهيونية إلى عاملين رئيسين في تحقيق أهدافها: نفي الآخر وإبادته والاستيلاء على ممتلكاته، والعامل الآخر، هو استناد المشروع جملة وتفصيلاً إلى الدعم المالي والعسكري والسياسي الذي يأتي من الخارج، مقابل جعل الكيان الغاصب إسفيناً في خاصرة الأمة، وأسطولاً عسكرياً ثابتاً للقوى التي تقف من خلفه.

نفي الآخر، خاضع لقانون المتتاليات والأواني المستطرقة. لقد توسع هذا المفهوم من نفي الوجود الفلسطيني، إلى نفي وجود اليهود الشرقيين، لتحضر مجدداً الفوارق بين الأشكنازي والسفارديم، والاتكاء على الخارج، مرهون باستقرار وقدرة القوى الدولية على الاستمرار في الوفاء بالتزاماتها تجاه المشروع. ولأن القوى الدولية التي تدعم المشروع الصهيوني تنوء الآن بأزمات اقتصادية حادة، فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك على استقرار الأوضاع الاقتصادية، على «إسرائيل»، لتضيف إلى ما هو متجذر في الأصل بالعقيدة الصهيونية، من غياب لميزان العدل، ولتحضر مجدداً ملهاة المحرقة، ولكن بشكل معكوس هذه المرة .

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 3646 - الخميس 30 أغسطس 2012م الموافق 12 شوال 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً