عاشت الصين في القرنين الثامن والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين فترة حالكة السواد، وهي نفس الفترة التي كانت مصر تعيش مرحلة المشروع النهضوي الأول الذي بدأه محمد علي العسكري الألباني، والذي أنتج لنا ترسانة عسكرية استطاعت من خلالها مصر أن تنتشر في الشرق الأوسط وإفريقيا، وأنتج لنا مفكرين من قامة رفاعة رافع الطهطاوي الذي أرسل إلى باريس ليكون إماماً للمبعوثين، فعاد ليكون مفكراً ورائداً للنهضة الفكرية والدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية، ومدافعاً عن حقوق المرأة كما يتجلي ذلك في عقد زواجه.
وقد تتلمذ على فكره العشرات من الأجيال اللاحقة.
واليوم تشهد مصر فترة بالغة السواد في تاريخها حيث تدهورت كافة مؤسسات الدولة وتراجعت الصناعة والزراعة والتعليم والصحة والخدمات والمرافق كما تراجع الأمن الداخلي والخارجي، وتحولت سيناء إلى بؤرة للإرهاب والتطرف، ومن ثم أصبح الوطن مستباحاً في داخله وفي خارجه.
ولعل ثمة ثلاثة أمور تعطي بصيصاً من الأمل في تغير الأحوال نحو الأفضل أولها ثورة 25 يناير التي كان الشباب طليعتها، وانضم إليها لاحقاً الأحزاب السياسية الضعيفة ثم القوية، وقد عبرت تلك الثورة، كما أوضحت في كتابي «ثورة 25 يناير إطلالة استراتيجية على الأبعاد الداخلية والخارجية «عن تطلعات كافة الشعب المصري.
الثاني وجود مؤسسات منتخبة على قمتها مؤسسة الرئاسة بقيادة الدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية، وما عبر عنه من فكر أكثر انسجاماً مع الروح المصرية المعتدلة والمتوثبة نحو الانطلاق للمستقبل ونسيان الماضي.
الثالث وجود مؤسستين قويتين ما تزالان متماسكتين بعيداً عن الحزبية والتسييس هما القوات المسلحة والقضاء، وهما تمثلان الركائز المهمة لأية دولة، وللأسف الركيزتان الأخرتان ما زالتا تناضلان للعودة للقيام بدورهما، وهما الشرطة والصحافة. بعد أن تم اختراقهما من النظام القديم بدرجة كبيرة.
ماذا عن الصين؟ لقد انطلقت الصين عندما توافرت لها مقومات خمسة غيرت الصين من دولة متخلفة وضعيفة، وتعاني من المجاعات إلى دولة تمثل الاقتصاد الثاني في العالم. المقومات الرئيسة للانطلاق الصيني هي، الأول وجود إيديولوجية واضحة تقوم على المواطنة والمساواة التامة بين الأفراد، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو أي اعتبارات أخرى سوى الولاء للوطن والإيمان بالفكر الجديد. الثاني وجود زعيم قوي يستند لسلطة شعبية، وفكر متطور يرفض الجمود بما في ذلك الفلسفة الماركسية الأم، وبما في ذلك الفكر والممارسة السوفياتية السابقة، ويسعى لتطوير فكر، وممارسة جديدة تعتمد خصائص الصين وتراثها وحضارتها وتطلعاتها.
الثالث الكوادر الحزبية التي تؤمن بالعمل فقط، ولا تسعى لمغانم شخصية، أو مناصب أو طموحات، ويتم التخلص من الكوادر الفاسدة بصورة سريعة وفورية، ومعاقبة كل من يرتكب فساداً أو انحرافاً بغض النظر عن مكانته الحزبية.
الرابع بناء قوة عسكرية تعتمد العلوم الحديثة والتكنولوجيا، ولها دورها في النظام السياسي، ولها امتيازاتها، ولا يسمح لأحد بالمساس بها باعتبارها عدة الوطن وقوته الضاربة ضد أعدائه.
الخامس مبدأ سيادة القانون الذي يطبق على الجميع بلا استثناء، وعلى الكوادر الحزبية قبل غيرها، لأنهم يجب أن يكونوا قدوة، ووجود شرطة قوية تقوم بتنفيذه.
وهكذا أمكن للصين أن تنطلق وتصبح قوة يحسب لها حساب في موازين العالم المعاصر خلال عشر سنوات فقط من 1978-1988، ثم دعمت قوتها في السنوات التالية بتناوب السلطة، وتخلي زعيمها دنج سياو بنج على السلطة وهو في قمة نجاحه، ليعطي المثل والقدوة. وهذه السنوات الثلاثين هي بخلاف الثلاثين عاماً للضياع والمهانة التي عاشتها مصر قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.
السؤال هل تستطيع الصين أن تساعد مصر في تحقيق مشروع النهضة؟ وقد طرح عليَّ هذا السؤال أحد المذيعين في قناة مصر 25 منذ بضعة أيام، عندما طلب مني التعليق على انعقاد منتدى التعاون الصيني الإفريقي الذي كان آنذاك في الصين.
وكان تعليقي مختصراً، وخلاصته إن الصين على استعداد للمساهمة في مشروع النهضة المصري، ولكن للصين شروطاً موضوعية إذا توافرت ستقدم مساعداتها ومساهماتها بلا تردد، وإذا لم تتوافر فستعطينا كلاماً دبلوماسياً جميلاً كما حدث في الماضي، لأن الأدب الصيني ولغة الثقافة الصينية غير معتادة على الكلام الجاف أو التدخل في شئون الدول الأخرى أو تقديم نصائح لها كما فعل رئيس الوزراء البريطاني في رسالته لرئيس الوزراء المصري الذي طالبه فيها بضرورة إدخال إصلاحات ديمقراطية حسبما نشرت الأهرام يوم 11 أغسطس/آب الجاري، أو الأميركيين الذين يكثرون من نصائحهم وتدخلاتهم ومنظماتهم غير الحكومية والحكومية، وشراء الذمم والضمائر عبر بعض تلك المنظمات التي تحمل أسماء جميلة، وتفعل بخلاف ذلك.
ما هي متطلبات التعاون الصيني؟ أولها المصلحة المشتركة المتبادلة، فإذا لم تكن هناك مصلحة مشتركة فالصين لا تعطي معوناتها مجاناً، وهذه متوافرة في قطاعات البترول والغاز، وفي الصناعة، وفي الاستثمارات، والسكك الحديدية، وغيرها من المرافق العامة، والثاني أن تكون هناك بنية قانونية واضحة وشفافة تحكم عملية الاستثمار، وأداة فعالة تطبق القانون، واستقرار سياسي وأمني، وثالثها أن تكون هناك دراسات جدوى واضحة ودقيقة للمشروعات التي تضع فيها أموالها.
أما إذا لم تتوافر هذه المتطلبات فلا مجال سوى لعمل استثمارات قليلة ومحدودة، كما هو الحال في المراحل السابقة وحتى الآن. الصينيون لا يرغبون في بيع السمك في الماء، ولكنهم يبيعونه بعد اصطياده، أي ضرورة التأكد من عملهم ونتائجه. وقد شبع الصينيون من كثرة وعود النظام السابق، وأنا أيضاً كسفير سابق لمصر ومتخصص في الشئون الصينية شبعت من وعود ذلك النظام، حتى أنني نشرت مقالاً في مجلة «الصين اليوم» منذ أكثر من خمس سنوات بعنوان»متى تقام علاقات بين الصين ومصر»؟ وشرحت فيها حالة البيروقراطية والفساد في مصر، وعدم الجدية من كبار المسئولين. وقد تطورت علاقات الصين بالكثير من الدول الإفريقية والدول العربية، رغم أن مصر كانت أول دولة عربية وإفريقية تقيم علاقات مع الصين، وتعترف بها منذ العام 1956، ورغم تسع زيارات للرئيس المخلوع محمد حسني مبارك للصين، وزيارتين لرئيس الوزراء الأسبق الجنزوري، وتوقيع عشرات مذكرات التفاهم، ولكن الحصيلة ضعيفة للغاية، وأنا كتبت هذا في مذكرات رسمية، وأيضاً في مقالات صحافية نشرتها في صحف مصرية، وبخاصة الأهرام.
السؤال هل نحن جادون في الإصلاح؟ وهل نحن على استعداد لتوفير متطلبات النهضة من احترام القانون وتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي، ومن ضبط الإدارة، ومواجهة الفساد بجدية، ومن إعداد دراسات الجدوى؟ إن الزيارة المرتقبة للرئيس محمد مرسي هي علامة مبشرة. إن النهضة ليست شعاراً نردده، وإنما هي فكر وتخطيط وتنفيذ ومتابعة. إن الأمل هو أن تكون مصر تحت رئاسة الدكتور محمد مرسي مختلفة نوعياً في تعاملها مع العالم الخارجي، وأن تدرك أن السياسة الخارجية لابد أن تكون لخدمة السياسة الداخلية، وتتخلى عن منطق الفسح الدبلوماسية لرئيس الدولة أو وزير الخارجية أو غيرهما من كبار المسئولين.
إن المطلوب أن تدرك حكومة الدكتور مرسي أن نجاحها أو فشلها يقاس بمدى تحقيقها لطموحات شعب مصر، وليس أي شعب آخر صديق أو شقيق أو حتى يشترك معها في التوجه الفكري. إنه من الضروري أن تدرك الحكومة الجديدة أن منطق فريق الأصدقاء والأصحاب والأقارب لا يقيم نظاماً سياسياً لدولة حديثة، وإن تزاوج السلطة والثروة ونظرية التوريث جلبت على مصر كوارث ضخمة. وإن تقدم مصر لا يكون إلا بالحزم، وليس بالمهادنة للفساد في مختلف القطاعات، وهو فساد توغل بقوة في الحكم المحلي، وفي قطاعات مهمة في الدولة. هذا لا يعني أن المسألة مستحيلة، بل هي في تقديري ممكنة عندما تتوافر القدوة من القيادة، وهذا هو المحك لحدوث النهضة، وعندئذ تتطلع الصين وغيرها للمساهمة فيها تحقيقاً لمصالحها في إطار التعاون الثاني والتعاون الجماعي من خلال منتدى التعاون الصيني العربي، والتعاون الصيني الإفريقي، ومن هنا يمكن أن تتم النهضة أو انطلاقها في خلال عشر سنوات كما حدث في الصين، وكما حدث في اليابان، وكما حدث في عهد محمد علي، بل كما حدث في ماليزيا وغيرها، والأهم هو كما حدث في عهد النبي الكريم(ص) عندما بنى دولته على أساس التسامح والاعتدال بعد فتح مكة، ولم يقلب ويعيش في صفحات الماضي، واضطهاد قريش له ولأصحابه، والتآمر على قتله.
لقد غلب التسامح والعفو على الثأر والانتقام، لقد ركز على البناء، وليس على الهدم كما نشاهد أحياناً في بعض تصريحات ثورية عنترية تعبر عن المراهقة الفكرية. اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3645 - الأربعاء 29 أغسطس 2012م الموافق 11 شوال 1433هـ
ماحدا ممابدا
الكاتب المحترم طالما دافع عن سياسة مبارك الخارجية واصفا اياها بالعقلانية والمعتدلة والان ينتقدها ويذم النظام السابق واكثر من مقال نشرت له الوسط يمدح في سياسة النظام السابق فماحدا ممابدا ..
لمحاربة الفساد شروط
اذا اراد الدكتور مرسي النهوض بمصر اولاً محاربة الفساد والطائفيه والمحسوبيه وتوحيد فصائل الشعب المصري وتوزيع اثروه على كل المصريين واشراك كل قوى الشعب في الحكم والتركيز على الكفآت في مواقع القرار وفتح علاقات مع كل الدول لتنمية الاقتصاد الوطني من خلال التعامل في مجالات التجاره والزراعه والسياحه واعادة دراست استثمار الارض وزراعتها وعدم السير خلف الانظمه الفاسده والمفسد كالرجعيه العربيه والامبرياليه والصهيونيه العالميه وشكرا لصاحب المقال