أود في بداية حديثي أن أؤكد على عادة حضارية حسنة قبل السفر إلى أي بلد من البلدان، وتتمثل في القراءة المكثفة عن تاريخ وثقافة هذا البلد قبل البحث عن الأماكن الترفيهية والمنتجعات والمطاعم وأماكن التسوق.
وقد جرت العادة بعد انقضاء العطلة الصيفية أن يتحدّث كثير من زملاء العمل والأصدقاء والأقارب عن زياراتهم ورحلاتهم، ومن بين أشهر هذه الأماكن السياحية يأتي الحديث عن سويسرا باعتبارها مقصد الباحثين عن الهدوء والجمال، وكذلك الأثرياء من كل أنحاء العالم. أما الأزواج الذين يقضون شهر العسل فإنهم لا يتوقفون عند جمال وهدوء مدينة جنيف بل يقارنون بمدن أكثر روعة مثل برن، العاصمة السياسية والإدارية لسويسرا، وكذلك زيوريخ التي اختيرت من العام 2000 حتى العام 2008 كأجمل مدينة للعيش بها في العالم.
بقراءة متأنية لتفاصيل التاريخ السويسري يمكن الخروج باستنتاج أولي يفيد أن هذه الدولة قد حمت نفسها بحيادها السياسي، على رغم أنها كانت في فترة تاريخية معينة مسرحاً لحروب أهلية استمرت سنوات بين البروتستانت والكاثوليك، وبين الناطقين بالفرنسية والألمانية، وبين الريفيين والمدنيين والليبراليين والمحافظين، ولكنهم على رغم كل ذلك التباين والاختلاف نجحوا العام 1848 في وضع دستور أسس لإنشاء مجموعات من الهيئات السياسية التي نجحت في حماية سويسرا عبر نظام فيدرالي رئاسي، يتمتع بلامركزية واسعة تعبر عن الديمقراطية التوافقية المستندة للأغلبية التي تقبل بالتنوع من دون إقصاء لأي جماعة، وفي هذا الجانب تحديداً درس جدير بالتعلم للدول العربية.
منهج سويسرا في «الحياد السياسي» جعلها أيضاً مقراً للكثير من المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة العمل الدولية ومنظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر الدولي والملكية الفكرية ومجلس حقوق الإنسان. وبالمناسبة فإن اليوم العالمي للديمقراطية الذي يوافق 15 سبتمبر/ أيلول قد عُقد في مصر تقديراً واحتراماً لثورة مصر السلمية والجهة التي أعلنت عن الاحتفال هو «الاتحاد البرلماني الدولي»، الذي يضم كل برلمانات دول العالم ويمارس دوره كأكبر تجمع لشعوب الكرة الأرضية، ويمثل الضمير الديمقراطي في عالم اليوم. ويشبه في عمله أدوات الأمم المتحدة لكن الفرق بينهما هو أن الأمم المتحدة تمثل تجمع الحكومات، بينما الاتحاد البرلماني الدولي يمثل تجمع الشعوب.
لكن اللافت في الأمر أن اسم سويسرا أخذ يتردد كثيراً في الإعلام العربي بعد نجاح الربيع العربي و بزوغ المطالبات الحقوقية كما هو الحال في مصر، وهروب بعض رموز نظام حسني مبارك ومن بينهم حسين سالم، الذي يقال إنه متواجدٌ في سويسرا على رغم أن اسمه ضمن أسماء النشرة الحمراء التي أصدرها الإنتربول الدولي.
الجهات الحقوقية والجمعيات الإنسانية واصلت طرح علامات الاستفهام والتساؤلات: كيف لدولة مثل سويسرا التي تتبنى سياسة الحياد التام، أن تقوم في الوقت نفسه بفتح بنوكها لكل المفسدين في العالم من دون مساءلتهم عن مصدر تلك الأموال الطائلة؟ بل وتضمن لهم سرية الحسابات وكأنها تشجع الناس على الفساد وتقدّم لهم وسائل الحماية للأموال التي نهبوها؟ والمدهش أن سويسرا أعلنت تجميد حسابات بعض الرؤساء العرب الذين سقطوا بعد الربيع العربي، ولكنها لم توضح للشعوب المنهوبة كيف أنها قبلت ابتداءً تلك الحسابات غير المشروعة من الأساس؟
البنوك السويسرية تتعامل بنظام مشفر يزيد عمره على مئتي عام، ولا يسمح هذا النظام حتى للموظفين بمعرفة أصحاب الحسابات. كما أن العميل يستطيع إيداع أمواله بأسماء مستعارة أو استبدالها بأسماء سرية لا يعرفها غيره. لذا تساءل بعض المحامين: ماذا لو مات أحد العملاء؟ هل ستحتفظ سويسرا بالأموال؟ وهذا عيناً ما قام به المحامون في الفلبين عندما مات الدكتاتور ماركوس، إلا أن الأمر كان بحاجةٍ إلى أحكام مدنية وأوراق قانونية لاسترداد تلك الأموال. فهل بقيت تلك الأموال وغيرها من الأموال العربية في رصيد سويسرا العام، وعليه انعكس ذلك على المواطن السويسري الذي لايزال يتمتع بأعلى مستوى من الرفاهية عالمياً؟
معلوم لدى العقلاء أن الرفاهية لا تدوم، ففي أواخر الستينيات كان السويسريون هم المهيمنون على صناعة الساعات، حيث زاد نصيب سويسرا في السوق العالمي للساعات على 65 في المئة، ثم فجأةً تناقص نصيبهم في السوق من 65 في المئة إلى 10 في المئة فقط، بحيث تراجع السويسريون من هيمنة كاملة على مستوى العالم إلى مجرد لاعب لا وزن له. ويقول خبراء الاقتصاد إن السبب هو التكنولوجيا التي باغتت صناعة الساعات. فقد بادر السويسريون بعرض ساعةٍ جديدةٍ لم يكن لها مثيل في المؤتمر الدولي للساعات، وتصادف وجود شركة «سيكو» التي سرعان ما التقطت الفكرة وقامت بتسويقها على مستوى تجاري، فأخذ السويسريون الذين اخترعوا الساعة الجديدة على حين غرة.
إذا السياسة تتغير، والأوضاع الاقتصادية أيضاً تتغير، وقد جاء في المأثور «اخشوشنوا فان النعم لا تدوم»، لكن المعرفة ثابتة بما تشتمل عليه من أدب عالم الرحلات الذي يزخر به تراثنا العربي. فالثروات الثقافية لدى الكثير من الأمم أصبحت محطات استقطاب للسياح الذين تتنوع اهتماماتهم أثناء وصولهم للدولة المقصودة لزيارة معالمها والتعرف على ملامحها الثقافية والفكرية عن كثب. وباعتبار أن الرحلات ليست للاسترخاء والاستجمام والتلذذ بأنواع الأطعمة فقط، بل هي مزارات ثقافية وتماهياً مع ما جاء في المقابسات لأبي حيان التوحيدي تجعل النفوس تتقادح والألسن تتفاتح والعقول تتلاقح، فتشبع نهم السياح وفضولهم المعرفي.
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 3644 - الثلثاء 28 أغسطس 2012م الموافق 10 شوال 1433هـ
شكراً على هذا الطرح القيم
طرح قيم. وهذا هو الفرق بيننا وبين الشعوب المتعلمة تعليماً صحيحاً. عندما يأتون الى بلادنا يقراون عنها ويزورون معالمها الحضارية والتاريخية اما نحن فنذهب للمراقص والمواخير والحوانيت.
مفارقات الديمقراطية
هذه من المفارقات العجيبة فعلا. هذا البلدالمستقر يتحول الى مخزن وخزانة لاموال الحكام الدكتاتوريين من كل القاراتز