مَنْ له ذاكرة جيدة، سيستحضر معي لعبة «الحصن»، التي كانت تعرضها القنوات الأولى للطفرة التلفزيونية مطلع التسعينات. لعبة الحصن، هي عبارة عن مربَّعٍ جغرافي، تزيد مساحته عن الألفي متر، وتلتوِي بجوفه عدد كبير من الأزقة والمتاهات الضيقة، والمقطَّعَة وغير السالِكَة، عبر تخريم قاعها تارة، أو حفِّها بعائق خارجي أو فني، يجعل من العابر فوقها، يلقى مشقة في تجاوزها. كما أن تلك الأزقة والمتاهات، لا تتضمَّن أيَّ دالة ترشِد العابر فوقها إلى أيِّ جهة هو يسير، وبالتالي هي قد تفضيه لفروع متوالدة من المخارج تسبق ظهوره إلى خارج المربع.
خلاصة التسلية في الحصن، هي أنك تدخلها دون خريطة. تعتمد فيها بإعمال الحدس وضرب الأخماس بالأسداس لا أكثر. لذا، فإن الداخل إليها عادة ما يصل إلى نهايات غير موفقة، وإلى أبواب مُوصَدَة، وكأنه قرأ الطريق بشكل خاطئ، فيكرُّ راجعًا، ليبدأ المهمة من جديد، وهكذا دواليك. كما أنك قد تواجه عند عبورك أزقة الحصن، العديد من المتاعب، نتيجة العوامل الداخلية والخارجية، التي لا تعوقك فقط بل قد تؤذيك وتقتل لديك روح الاستمرار والحماس الأول.
هنا، أقارِب ذلك الشكل المتوِّه للحصن، مع أحداث السياسة، وما ينضح منها من أنباء متولية. فالخبر هو إعلامٌ لنا بحدوث شيء ما، لكنه بداية العقدة. فالخبر عندما يأتينا هو في أصله صورة. يجب أن نستخرج منها كلَّ تفصيلات الحدث. والصورة هي بالأساس، تعكس لحظة زمنية، سبقها وأعقبها مجموعة من الأحداث الأخرى، ربما غيَّرت من مفاعيل وشكل اللحظة التي دوَّنتها الصورة. فعندما نرى جثثًا محترقة نتيجة تفجير إرهابي، فإن ذلك يعني، أن هناك سيارة مفخخة، أو قنبلة مركونة، أتى بها أشخاص، ينتمون أو أنهم مموَّلون لأطراف لها أهداف محددة، وبالتالي، علينا أن نستحضر كل تلك المشاهد الغائبة، والتأويلات اللازمة لفهم الخبر عموديًا.
لذا، من الخطأ، أن تقرَأ الأخبار بطريقة نصِّيَّة بحتة؛ فهناك جوانب فرعية للخبر، وهناك خلفٌ وقُدَّامٌ وتفسير. أيضًا، كل هذه الأشياء لا يمكنها أن تتم بغير متابعة وذاكرة وربط واستشراف. فالأولى تمنح القراءة خط سير الأحداث منذ بدايته. الثانية تجعل من الأحداث المتفجرة توًا، بمثابة الصَّدى لما سبقها من أحداث. والثالثة تجعل الأحداث بمثابة المقدمة الصغرى، القادرة على إيضاح المقدمة الكبرى. والرابعة تمنح القارئ كامل المشهد بمعطياته لكي يقرر ماذا سيحصل.
نعم... المتابع السياسي والإعلامي، هو بمثابة رجل الأمن المتقصِّي والمتبحِّث لكل صغيرة وكبيرة في المشهد. فرجل الأمن عندما يأتي إلى مسرح الجريمة، يلتقط كلَّ شيء يراه في الحيِّز الجغرافي إلى أبعد تخمين يراه بعينه أو بخياله؛ لأن مشهد الجريمة الأصلي وما أفضى إليه من قتل/ جرح/ خطف لم يره أحد، وبالتالي، فهو يعتمد على البَعَرَة علها تدلُّ على البعير، كونها رجيع الخُف والظِّلف. وليس غريبًا أن نعرف، بأن الدليل الذي اعتمدت عليه المحكمة في تجريم الليبي الراحل عبدالباسط المقراحي في حادثة تفجير طائرة بان أميركان فوق لوكربي باسكتلندا، كانت خرقة سويسرية صغيرة من الكَتَّان، وُجِدَت على بعد بضعة كليومترات من مكان تحطم الطائرة.
كلُّ المراكز البحثيَّة المرموقة، والمناصب التنفيذية العليا في الدول، تعتمد على خبرات صحافيَّة وإعلامية لديها. هم ليسوا كما نفعل نحن، حين نقوم بتوظيف الإعلاميين من أجل تلميع الصُّورة وتنميقها (فرد/ مؤسسة) بل هم يعتمدون على الإعلاميين كقارئين للأخبار وما ورائياتها. يُستَدعَى رجل الإعلام، ولا ينتهي عمله بإعطاء معلوماته التفصيلية حول خبر ما، وإنما بوجهة نظره بشأن إرهاصات الحدث، وما يسؤول إليه، وردود الفعل المتوقعة، والأطراف المعنية به.
هذه الدقة، وهذه الخطورة، في مسألة القراءة الخبرية للأحداث، وما يسبقها وما يعقبها من تطورات، تجعلنا اليوم نتذكر وبشديد من الأسف، ما نراه في عالمنا العربي، من استسهال مخيف للمسألة الخبرية، والاستقصائية، وبالتالي فرض عوالم وهمية، لا أساس لها من الصحة. بل وفرض أصدقاء وهميين وأعداء وهميين للشعوب، ومعارك وهمية، ثم حشر الأمة، في جولة افتراضية من الاحتراب لا طعم لها ولا لون ولا رائحة.
اليوم، بات عديدٌ من الحمقى، من رافعي رايات الجهل، يقرأون الأخبار بشكل تسطيحي ومضحك، ثم يريدون أن يُلقنوها للأمة كدروس في التحليل السياسي، والحصافة، ورؤية الأمور كما يجب، في الوقت الذي لا تتوفر لديهم أبسط أساسيات القراءة الصحيحة، التي تسالَمَ عليها العقلاء. لا أقول بعدم توفر الأساسيات لهم فقط، بل استنادهم على أفكار متطرفة، قائمة على أحقاد نفسية، وطائفية مقيتة، وكأن أحداث الدنيا كلها من أجلهم، ومن أجل فكرهم الأسوَد.
هم يقرأون الخبر، فإن لم يجدوا في جوهره ما يشفي غليلهم من توجيه، ليحقق مآربهم حوَّروا في نصِّه باتجاه ما يرومون، فإن لم يستطيعوا جَهِدوا في أن يركِّبوه عنوة على غيره كيفما اتفق، علَّه يأتي بصديد جروح من يُدمونهم من الأبرياء، فإن عجزوا عن ذلك دلفوا إلى اختلاق أخبار وروايات، ووضعها في أفواه من يريدون، بطريقة مُسَيْلَمَانيَّة رخيصة، فإن جاء التكذيب من أصحابها لاحقًا، فإنهم لم يخسروا شيئًا بعد تسعيرهم جَلبَة هنا وأخرى هناك، فهم أقل الناس حرصًا على الصدق والمصداقية، التي لا يرون فيها التزامًا أخلاقيًا ولا سلوكيًا قويمًا، ولو بمثقال ذرة!
أنظروا إلى فارق الممارسة، بين مهمَّة إنسانية ومهنية عظيمة وخطيرة، لا يُستوفَى أمرها إلاَّ بالمتابعة الحثيثة، والذاكرة النشِطة، والربط الحصيف، والاستشراف الثاقب، وبين أعمالٍ جاهلية، يقوم بها جوقة من الحمقى، الذين لا يعلمون مدى خطورة ما يفعلون. عفوًا، لا أقول إنهم لا يعلمون حقيقة فعلهم، فنأخذهم بحسن النية لينالوا أجرًا واحدًا، أو أنهم طلبوا الحق فأخطأوه، بل هم مُدركون لما يفعلونه من شَرَر، حق الإدراك، وبالتالي فهم ليسوا معذورين فيما يقولون مطلقاً.
الخبر مسئولية. وقراءته مسئولية أكبر. والذين يجتهدون في خلق الأكاذيب، والأحداث من العَدَم، هم يصنعون تاريخًا مأزومًا لهذه الأمة، ستأكل حصرمه الأجيال القادمة، مثلما أكَلَ مَنْ سبقونا، ونأكل اليوم ما وضعه جُهَّال الماضي من أخبار الزُخرُف.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3642 - الأحد 26 أغسطس 2012م الموافق 08 شوال 1433هـ
متهم ب ا ل ط ا ئ ف ي ة
الكذب لا يؤتي أكله الا اذا توفرت طائفة هبلة تفتح فمها دائمة لاكاذيب بالية
والغريب انها ما تتعلم!!
مقال رائع
الاستاذ الفاضل محمد عبد الله
المقال جميل بس طويل ممكن تختصرة شوي
حقا هذا المقال رائع
فعلا الاخ محمد اضاف للفكر الصحفى بعد رائع بهذه المقالات الفذة التى تسبر غور مجتمعاتنا الان. اتمنى من الكاتب جمع هذه المقالات في كتاب واحد يضم كل فئة منه لون من فنون الخبر الصحفي للدراسة والاطلاع لأجيال صحافية تعنى بفن الكتابة الصحفية وفن عرضها بدون تجريح في أحد وتلامس شتى اطياف المجتمع .
شكرا
شكرا لمقالك يا أستاذي العزيز
اصبت الحقيقة يا استاذ
انك تهني يا اخي بعض الحاقدين الجهلاء الذين لاًيرون الا انفسهم وكذبهم وان العالم يدور في فلكهم. ، فهم باهاء وحميد ويجلسون الويل والخزي