كلما جعَلتَ ناظرَيْك إلى الأرض، لم ترَ إلاَّ قدميْك، وكلما رفعتهما، رأيتَ ما اتسع له البصر من مدى. المدارك ينطبق عليها ذلك أيضًا؛ فهي تتَّسِع باتساع الأفق. في أحيان كثيرة، نقرأ أشياءً من الماضي، لكننا نتفاجأ، أن تلك الرواية، تناسبها دراية في حاضرنا. إنه التاريخ حين يُعيد نفسه.
أكبر ما يُقلق حزام الشرق المسلم هو فهمه لذاته. مَنْ هو؟ وما هي هويته؟ وكيف يتصرَّف مع الأغيار؟ وهل ينبغي له العيش واحدًا أم متعددًا؟ وكيف يحقق معادلة «التنوع في عين التضامن والكثرة في عين الوحدة والثبات في عين التعايش»؟ هذه هي المشكلة الأم التي تواجه هذا الشرق.
هذه الاستفهامات، إذا لم نجِد لها جوابًا يحفر لنا مسار حياتنا، فما الفائدة من هذا العمر الذي نقضي أيامه وساعاته ترفًا؟! فالحياة، ليست بهيميَّة؛ لأنها تتضمن قِيَم وتَدَافع، وصياغة أفكار وأنسَنَة للسلوك، وهي أمور لا تتأتى من غير إدراكنا لمعاني كثيرة، تتعلق بنا وبمن حولنا من البشر.
اليوم، أكبر تحدٍ يواجه المشرق المسلم، هو ما واجهته أوروبا خلال مرحلة الإصلاح والحروب الدينية الطاحنة. هذه صفحة جَلِيَّة من التاريخ يمكن أن تكون لنا دالَّة على الخطر الذي يُحِيق بنا، والمتمثل في الصراع الطائفي والمذهبي الأعمى. لقد تذابح الأوروبيون وتقاتلوا على مدى قرنيْن إلاَّ خمسين عامًا بشكل رهيب، والسبب هو نزعَات مذهبية جاهليَّة، عالجوها بالدماء والنكَبَات.
هَلَكَ خَلق كثير من الكاثوليك في الغرب الأوروبي، وهَلَكَ ضعف عددهم من البروتستانت في جنوب القارة. لنسأل الأوروبيين على ماذا تقاتلوا؟ ربما كانت القَدَّاحَة هي تصحيح ديني لمنهج الكرسي الرسولي الكَنَسي، إلاَّ أنها تحوَّلت لاحقاً إلى صراع جنوني، وإراقة سهلة للدَّم، على مجرد أفهام دينية، بعضها لا يتجاوز النظر في التشريع للرسومات الجدارية. كم كانت الدواعي تافهة حقاً.
لقد نُصِبَت المشانق للمهرطقين ادعاءً، ونفِّذَت أحكام الإعدام لهم بالحرق في الشوارع. وكانت كلمة بروتستانتي بالنسبة للكاثوليك تعني الشَّر كله، وكذلك نظرة البروتستانت للكاثوليك. هذه العدوانية المتبادلة، جعلت من الحياة الأوروبية جحيمًا، ومركزًا للهجرات المذهبية القسرية.
إنها أجواء، دفعت بالأوروبيين بعد قرن أو أقل، لأن يتمرَّدوا على المسيحية كدين بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي. فطَرَحَ جاك روسو ومكسميليان روبسبيير عبادة الكائن الأسمى. ثم طَرَحَ السان سيمونيون الدين الإنساني، العابر للتعاليم الإيكليروسية التقليدية الصرفة. ثم ظهرت بعد ذلك العقائد شبه الدينية، المتأسِّسَة على قوامات عقلانية غير مسيحية كما أشار هوبزباوم.
وكان ذلك المسعى في حقيقته، الزحف الأول، نحو صناعة حياة ثورية وسياسية علمانية في أوروبا، لا تأتمر بالمسيحية. وتاليًا، ظَهَرَ الجموح العلماني المتطرف أكثر، برمي الإنجيل المقدس، وبَشَريَّة عيسى عليه السلام. فأصبحت أوروبا (الثورية والمحافِظَة في آن) تسير بقاطرة سياسية علمانية سريعة، وهي تهرِس تحت أقدامها مخلفات الصراع المذهبي، بكل تداعياته الدينية والديمغرافية.
نحن اليوم، لا نحتاج إلى إعادة التجربة الأوروبية من جديد، مع معرفة مآلاتها وخسائرها الفادحة. فتجربة الدم في سبيل قضايا فاشلة معروفة النتائج أمر مذموم عقلاً وسلوكًا. ولكي لا نكون أغبياء، نقوم بفعل نفس الشيء مرتين، وبنفس الأسلوب ونفس الخطوات ثم ننتظر نتائج مختلفة كما قال آنشتاين، فعلينا تجنب ذلك، لأن الفعل وأسلوبه وخطواته ونتائجه معروفة وكفى.
ماذا يفيد لو أننا فتحنا مصارع وصراعات التاريخ السحيق؟ ماذا يفيدنا لو قلنا بأن فلانًا كان على صواب، وذاك كان على خطأ؟ ماذا يفيدنا لو أننا شتمنا هذا أو خوَّنا ذاك؟ ثم هل من المنطقي، أن ندَّعي أن هذا الدين وذلك المذهب، وهذه الطائفة في النار يتلظَّوْن، وغيرهم في الجنة يتنعمون؟! ماذا أبقينا إذاً لصكوك الحرمان والغفران القروسطية، التي ابتليَت بها أوروبا قبل قرون فائتة.
اليوم، وللأسف، وفي الوقت الذي كان فيه المسبار كوريوسيتي يحط بنجاح على سطح كوكب المريخ، وهو مزود بسبعة عشر كاميرا وبمولد كهربائي نووي، للبحث عن أدلة على وجود المقومات الأساسية للحياة، كان المسلمون والعرب يُقتلون في العراق وسورية وباكستان وأفغانستان ومصر واليمن لأسباب سياسية ودينية وطائفية جاهلية مقيتة.
وفي الوقت الذي كانت «ناسا» ترصد مليارين ونصف المليار دولار على تجربة كوريوسيتي وحدها، كنا نحن نرصد ذات المبالغ وأزيد منها، لننفقها على ملفات خاسرة ومضرة، مهمتها التجييش والشتيمة، وإنشاء القنوات الفتنوية التحريضية على بعضنا، وتظهيرنا على أننا الأعداء الأوَل لأنفسها، وكأننا نعيش خارج العصر، بل وخارج مدار الحياة كلها.
نتحدث بشكل جيد، ونلبس أشياء جيدة، ونركب وسائل المواصلات الحديثة، ونستخدم أحدث تقنيات الاتصال، ونسكن أفضل البيوت، لكننا مُجوَّفون، ننام ونصحوا دون هَمِّ مستقبلي واعد، لأننا بالأساس، قد سَلَّمنا أحوالنا ومقاليدنا لمن كان ولازال همُّهم كيف ينتصرون على هذه الطائفة، وذلك الدين، بتعيير بعضهم بعثراتهم وزلاتهم. إننا ولَّينا كبار أعمالنا صغار رجالنا. نحن شعوب لا ينقصها شيء. لدينا إمكانيات عالية. والدليل، أننا نحقق نجاحات عظيمة، عندما نتخلص من هذه الأجواء المشحونة والكريهة. كم من الأخوة الذين نعرفهم صار لهم شأوٌ كبير، في بلاد الغرب، عندما يذهبون للدراسة أو العمل، لأنهم هناك، يكتشفون ذاتهم بشكل أفضل، ويتناغمون مع النداء الحقيقي لدواخلهم. إنهم غيَّروا دالَّتهم، من خطاب التخلف الرجعي، إلى خطاب التنوير، الذي يتجاوز العقد الطائفية والمذهبية، لصالح الشراكة الجماعية الأوسع التي هي ما نحتاجه بالتحديد.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3638 - الأربعاء 22 أغسطس 2012م الموافق 04 شوال 1433هـ
ليس المشرق فحسب بل كل العالم كتبت عليه المسكنة منذ رزية يوم الخميس..
ماالحل
اعتقد ان المسؤلية يتحملها الجميع بحسب امكانياتهم ومواقعهم ولكن استاذ محمد نحن نحتاج الى حلول واقعية فكفانا جلد الذات اي غيور يعيش الهم والحسرة على اوضاع امتنا لماذا لانفكر في الحل
كربابادي
كل ذلك بسبب الطمع في الكرسي .. في أوروبا استعملت الكنيسة الإحراق والاتهام بالكفر لإخافة كل ذي عقل، وفي الشرق استعمل الطغاة أموال النفط للسيطرة على الإعلام وخلق البروباغندا التي تثبت كراسيهم اللاشرعية
السيد والناجر
ياخي العزيز اكثر من الف سنة من نزول القران الكريم
ولا ونحن مختلفنا بعد ايات صدق الله ا لعظيم او صدق
الله العلي العظيم الحمد الله علي نعمة العقل
مع الشكر الجزيل الكاتب الطيب الجريدة المحترمة
شكرا جزيلا كاتبنا المبدع
حقا إنه لمؤسف ما نراه من تفشي الطائفية في مجتمعاتنا
أحسنت قولاً يا أخي محمد
أصبت كبد الحقيقة يا أخي، ما أشبه اليوم بالبارحة ، تناحر و إصطفاف طائفي مقيت ، تكفير و تخوين و شحن ...، حطت سفن الفضاء على سطح المريخ و حطت جيوش الحقد و الاقتتال الطائفي المقيت في بلاد المسلمين ... الا سحقاً لمن غذى و يغذي الطائفية المقيتة من الأولين و الاخرين ... إوتعوا يا مسلمين ... "المسلم منْ سلم الناس من لسانه و يده"