تمر الدول عبر تاريخها بمحطات ومنعطفات مفصلية ومحن مختلفة، بحيث تشكل هذه الأزمات الكبيرة فرصاً حقيقية لتصحيح الأوضاع، بل للتطوير. ويتم ذلك من خلال التشخيص الدقيق والحقيقي لأسباب وأبعاد وجذور هذه الأزمات، ومن ثم توضع الحلول المناسبة، وفقاً للظروف المختلفة والإمكانات المتاحة، كما تؤخذ في الاعتبار الاستشرافات المستقبلية وأبعادها المختلفة في الحسبان عند وضع الحلول، حتى يضمن لها الديمومة والبقاء lasting solutions.
وعليه، فإن المدخل الحقيقي لحل الأزمات هو، أولاً الاعتراف بوجود المشكلة (أو المشاكل)، ومن ثم العمل على سبر أغوار جذورها وأسبابها وأبعادها، ومن ثم العمل على إيجاد الحلول المناسبة لها. وحيث إننا في معرض الحديث عن أزمة وطننا الجريح والمتلخصة في البعدين الحقوقي والسياسي بشكل أساسي، فقد وجب أن تؤخذ في الحسبان بعض المرتكزات والمبادئ الأساسية المتعارف عليها دولياً في عالم الديمقراطية، والتي يأتي في مقدمتها مبدأ «الشعب مصدر السلطات» الذي يختزل في طياته روح الديمقراطية، ومنه مبدأ المواطنة الكاملة والمتساوية دون تمييز بين أفراد المجتمع، على أي أساس كان مثل الدين، أو المذهب، أو القبيلة أو الجنس، ...إلخ.
وأن من أهم ركائز المواطنة الكاملة صوتاً لكل مواطن، وتساوي الفرص في مختلف جوانب الحياة من تعليم وابتعاث، وخدمات صحية، وأمن للجميع، وخلق فرص عمل للجميع دون إجحاف لأحد، ومنافسة مبنية على الكفاءة، والشفافية في توزيع المناصب العليا في الدولة، وحق الانتفاع بالثروة العامة، وصولاً إلى الحق في انتخاب أو اختيار من يمثلهم في المؤسسات التشريعية والرقابية (البرلمان والمجالس البلدية).
ومن الحقوق الأصيلة في عالم الديمقراطية أن يشارك المواطنون بشكل فعال في صياغة دستورهم، والذي يمكن التعبير عنه بالعقد المجتمعي، الملزم للحاكم والمحكوم، والذي يوضع من قبل مجلس تأسيسي منتخب يمثل إرادة الشعب، ويمتلك القدرة في تحويل تطلعات الشعب إلى واقع ملموس.
والمراقب عن كثب لما يحدث في وطننا يجد أن هناك مفارقات وتفويت لفرص جوهرية كان يمكن أن تسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في حل المشكلات الحقوقية والسياسية المتجذرة في وطننا الغالي. فأنا هنا أكتفي بسوق بعض الأمثلة السريعة والمقتضبة الموضحة لهذا الأمر، وسوف لن أدخل في التفاصيل، لأن ذلك يحتاج ليس لهذا المقال القصير، بل وبدون مبالغة إلى مئات الصفحات لتبيان تفاصيله.
- إن سرعة الإجهاض على المبادئ السبعة التي جاء بها سمو ولي العهد في شهر مارس/آذار 2011 ، والتي شكلت أرضية صالحة للحوار الوطني، بحجج عدم الاستجابة الإيجابية السريعة لهذه المبادئ من قبل الجمعيات السياسية المعارضة. وعليه فيحق لنا التساؤل، هل المبادئ التي تمس روح وجوهر الديمقراطية، كما أوضحنا أعلاه، مثل دوائر انتخابية عادلة (صوت لكل مواطن) يلوح بها (أو تطرح) ثم يتراجع عنها، في غضون أيام معدودة؟! بل هل يحق، في عالم الديمقراطية، لأفراد أو جماعات أن تعترض على مبادئ أساسية من مبادئ الديمقراطية، مثل دوائر انتخابية عادلة (صوت لكل مواطن)؟ أو الاعتراض على مبدأ تجريم التمييز؟ فإن حدث ذلك فهذه ليست ديمقراطية.
- قدمت لجنة تقصي الحقائق توصيات جوهرية للإسهام بتصحيح الأوضاع في بلدنا الحبيب. وكل محب لهذا الوطن رحب بهذه التوصيات، وذلك من منطلق أن تنفيذها بشكل صحيح سيسهم وبدون أدنى شك بشكل أساسي بتصحيح بعض الأوضاع الحقوقية منها بشكل خاص. كما أن التفاؤل كان يحدونا بأنه في حال التطبيق الصحيح لهذه التوصيات يتطلب وضع أسس وخلق ثقافة جديدة مبنية على الالتزام بالقواعد الرئيسية لحقوق المواطنين وفق المواثيق الدولية المتعارف عليها. ولكن للأسف لم تجد هذه التوصيات طريقها للتنفيذ بالشكل الصحيح. وكان واضح للقاصي قبل الداني الالتفاف على هذه التوصيات.
والأمثلة على ذلك كثيرة. فلو أخذنا فقط ملف المفصولين، فالتلاعب جار به بشكل فاضح (رغم مرور أكثر من تسعة أشهر على ظهور تقرير لجنة تقصي الحقائق، لم يغلق هذا الملف)، بل أن بعض الوزارات أمعنت في غيها، فهي لا تزال تنتهك حقوق موظفيها المنتمين لطائفة معينة من أكبر مكونات هذا البلد، حتى بعد صدور تقرير لجنة تقصي الحقائق، وكأنها تقول «نحن ماضون في سياساتنا الإقصائية، وإن تقرير لجنة تقصي الحقائق، أو غيره لا يعنينا البتة! وأحد أمثلة عدم تطبيق توصيات لجنة تقصي الحقائق هي عدم حل قضية البلدييين المنتخبين المفصولين (حيث أنا أحدهم)، حتى الآن!
- إن من ضمن توصيات لجنة تقصي الحقائق رقم 1722 فقرة (هـ)- ونصه: «توصي اللجنة بأن تقوم الحكومة بصورة عاجلة، وأن تطبق بشكل قوي، برنامجاً لاستيعاب أفراد من كافة الطوائف في قوى الأمن». فهل تم هذا الأمر؟ ففي 5 مارس/آذار 2011م أعلن وزير الداخلية البحريني عن فتح باب التوظيف لـ 20 ألف بحريني في الوزارة. فأين الشفافية في هذا التوظيف؟ وهل فعلاً تم توظيف هذا العدد من البحرينيين المنتمين لمختلف تلاوين هذا الشعب، أي من مختلف فئاته وطوائفه؟ كما يحق لنا التسأول، لماذا التوظيف في الدولة عموماً يتم بشكل طائفي بغيض لا يخدم بأي شكل من الأشكال بلدنا الغالي، بل يشطر المجتمع ويعمق هوة عدم الثقة بين المواطنين والسلطة؟ ومن أمثلة ذلك ما كشفت عنه بعض الإحصائيات (المأخوذة من الجريدة الرسمية Official Gazette) المتعلقة بتوظيف المناصب العليا في الدولة بأن نصيب مكون كبير في المجتمع البحريني هو ما مقداره 14% فقط من الذين صدرت مراسيم رسمية في توظيفهم في هذه المناصب؟
فالدول تسعى بشتى الطرق لتحسين الظروف المعيشية لمواطنيها، لأن المطالب المعيشية هي من صلب الحقوق المدنية للمواطنين، ويأتي في مقدمتها توفير فرص عمل شريفة.
ومن منطلق الإسهام في خدمة مواطنين بلدنا الغالي فقد تم الاتفاق في مطلع العام الماضي مع محافظ المحرق، أن نزوده بطلبات التوظيف بمستشفى الملك حمد الجامعي بالمحرق، وذلك بناءً على ما أوضح سعادته آنذاك، أن جلالة الملك حريص على أن يعمل في هذا المستشفى قاطنو جزيرة المحرق. وعليه فقد قمنا بتزويده بطلبات التوظيف الكثيرة، ولكن حدث عكس ذلك فلم يوظف أحد من شرفاء هذا الوطن من طائفة كبرى من مكونات بحريننا الغالية في هذا الصرح الكبير! فالزائر لهذا المستشفى يجد نفسه «غريب الوجه واليد واللسان!».
إن المتتبع لشأن بلدنا الغالي يجد العجب العجاب من كمية ونوعية التناقضات الصارخة، وعلى شتى الأصعدة التي بلا شك تضر بحاضر ومستقبل هذا الوطن، الذي عرف مواطنوه منذ فجر التاريخ بسجاياهم الحميدة. فهل تسهم هذه الأمور المفتتة في وحدة وعضد وكيان المجتمع في تعزيز ثقة المواطن بأن هناك إصلاحات حقيقية وذات مغزى؟ أم أن الخطاب دائماً موجه للخارج، دون أن يكون هناك له صدى ملموساً على الواقع المحلي يشعر به المواطنون بمختلف فئاتهم؟
فهل حقاً هذا هو قدرنا أن نعيش وفي القرن الحادي والعشرين في البحرين، المفارقات الصارخة الواحدة تلو الأخرى، كمصير وطن الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، الذي كان عندما يعشب ثرى وطنه ويأتي بالخير الوفير (في تلك الحقبة السوداء من تاريخ العراق العظيم)، يتضورون جوعاً؟!
إقرأ أيضا لـ "محمد عباس علي"العدد 3638 - الأربعاء 22 أغسطس 2012م الموافق 04 شوال 1433هـ
تحية وبعد
انتم عماد البلد مهما تعالت أصوات نعيق الإقصاء
صبرتم وجاهدتم والله لاينسي فهوا يمهل ولايهمل
شكرًا لكم والف تحية
سراق العشب
بوركت اناملكم عزيزي د محمد عباس \r\nالمقال فيه مصارحة ولوعة وحرقة \r\nيجب ان يسارع الحكم في اصلاح ما يمكن اصلاحه قبل ان يستفحل المرض ثم لا يجد الدواء البديل \r\nأبومحمد ن/ج
بلد القانون والمؤسسات
كلما طل علينا مسئول يتفاخر بالإنجازات ومشاريع التنمية زاد إقصاء المواطنين من طائفة معينة رغم امتلاك هذه الفئة كافة المؤهلات وأينما درت ببصرك فإنك لن تر إلا التمييز واستفحال المحسوبية وليس لنا إلا أن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل
جوعنا زاد على جوع سياب العراق
اصيل جزيرة المحرق الاصيلة بمواطنيها وتراثها ، قدمت مثال رائع لما نحن عليه اليوم كما كانت العراق في زمن شاعرها الفذ السياب صحيح وعملي ما نعانيه اليوم نحن اهل البحرين من هذا الجوع حين اعشب ثرى البحرين والجوع ليس فقط جوع البطن فما نعانيه اليوم من تشطير للمجتمع هو جو ما نعنيه من ديمقراطية مزيفة منافقة هو جوع ما نعانيه من فصل تعسفي ما نعانيه من اقصاء في الوظائف ما نعانيه من غزو بشري فاضح كل هذا جوع زاد على جوع السياب
كلام في الصميم
ان كل ما قيل هو كلام في الصميم. فنحن نعيش الازمات الواحدة تلو الاخرى. فكلما سنحت الفرصة لرفع مستوى المعيشة على سبيل المثال، تحرم طائفة كبرى في المجتمع وبصورة متعمدة. فاين الحقوق؟!