في المُجمل فوز قوى الرابع عشر من آذار في لبنان (نيابيا) ناجز. وفي التفصيل تقدّم قوى الثامن من آذار (شعبيا) مُلفت. بالتأكيد العِبرة بالخواتيم، لكن النهايات والخواتيم أيضا لا تكتمل إلاّ بعِبرٍ صغيرة تُشكّلها سَلَفا.
كَثُرَت التفسيرات حول ما جرى. بعضهم اختار التشفّي بالمهزوم. والبعض الآخر أصرّ على تقليل المُقَلَّل انتخابيا واستهجانه، وتكثير المكثَّرِ وكأنه نَصْرُ ماك آرثر في إنشون! والبعض دأبَ على التبرير. وآخر سار في جَلْدِ من يلُوْنَهُ بفجاجة لا تُطاق.
هنا أثَبِّت التالي قبل أن أَلِجَ الموضوع: إذا كان ما جرى للمعارضة من خسارة في الانتخابات النيابية في لبنان هو ثمن ليوم السابع من مايو/ أيار فهو بالتأكيد ثمن غير مأسوف عليه. فما جرى في بيروت بعد قراري حكومة السنيورة هو مرجعية سياسية، لا تُقدّر بثمن. هكذا أدّعي.
بالحسابات الإجمالية حصل فريق الرابع عشر من آذار والمتمثّل في تيار المستقبل، الحزب التقدمي الاشتراكي، القوات اللبنانية، حزب الكتائب، الجماعة الإسلامية، لقاء قرنة شهوان، حزب الوطنيين الأحرار، حركة التجدد الديمقراطي، حركة اليسار الديمقراطي، الكتلة الوطنية اللبنانية والمجلس الأعلى للتيار الوطني الحر على ثمانية وستين مقعدا.
وحصل فريق الثامن من آذار والمتمثل في التيار الوطني الحُر، حزب الله، حركة أمل، التيار الشعبي الناصري، تيار المُردة، الحزب القومي السوري الاجتماعي، تيار التوحيد، جبهة العمل الإسلامي ورابطة الشّغيلة على سبعة وخمسين نائبا. والمستقلون على ثلاثة مقاعد.
ولأن المعركة انجلت، وباتت المعارضةُ معارضة وأقليّة بالمقارنة مع الأكثريّة فإنه ولدواعي التثبُّت تجب الإشارة إلى عدد من الأمور ضمن التفصيل الذي قاد إلى فوز هنا وخسارة هناك:
أولا: بيّنت النتائج النيابية أن التيار الوطني الحُر بزعامة العماد ميشال عُون رَفَعَ رصيده من خمسة عشر مقعدا في انتخابات العام 2005 إلى واحد وعشرين نائبا عونيا خالصا، بينهم سبعة نوّاب جُدد، وإلى سبعة وعشرين نائبا بالتحالف مع تيار المَرَدَة وإيلي رحمة. وهذا يعني أن العماد عون يستحوذ على 32.8 في المئة من مسيحيي المجلس البالغ عددهم 64 نائبا أمام ما تملكه القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع والتي لا تزيد عن 3.2 في المئة من مسيحيي المجلس، وعلى ما يملكه حزب الكتائب والتي لا تزيد نسبته عن 12.5 في المئة أيضا.
والأكثر من ذلك أن بعض نوّاب القوات اللبنانية الخمسة فازوا في مناطقهم عبر روافع طائفية غير مسيحية. فجورج عدوان فاز في منطقة الشوف بأصوات درزيّة. وفريد حبيب فاز في الكورة بأصوات سُنّيّة (695 صوتا).
وهكذا الحال بالنسبة إلى نيقولا غصن وفريد مكاري، حيث حاز الأول على 762 صوتا والثاني على 815 صوتا غير مسيحي وإنما من قاعدة الحريري. بل إن ائتلاف جنبلاط - الحريري (دروز/ سُنّة) جاء بستة وعشرين نائبا مسيحيا، فالأول يستحوذ على 68 في المئة من الدروز والثاني يستحوذ على 88 في المئة من السُّنّة.
بالنسبة إلى بعض نوّاب الكتائب، فقد فاز فادي الهبر في عاليه بأصوات درزيّة، وفاز سامر سعادة في طرابلس بأصوات سُنيّة، وكذلك الحال بالنسبة إلى إيلي ماروني زحلة، التي أعطى 25500 ناخب تابعين لتيار المستقبل من أصل 28500 أصواتهم للموالاة!
وهكذا الحال بالنسبة إلى العديد من مسيحيي تحالف قوى الرابع عشر من آذار كـ نايلة تويني وميشال فرعون وجان أوغاسبيان وسيرج طورسركيسيان في بيروت الأولى، وإدمون غاريوس وإلياس أبو عاصي في بعبدا.
الأهم من كلّ ذلك أن النسبة التي حازَ عليها ميشال عون كقوّة رئيسية داخل الجسم المسيحي تُدلّل على أن المسيحيين الذين يُشكّلهم أو يُمثّلهم العماد عُون هم راضون عن علاقته الجديدة مع دمشق وطهران، وعن تفاهماته مع حزب الله، وراضون أيضا عن علاقته غير المُستقرّة من البطريرك كغطاء روحي مسيحي.
ثانيا: إن قوى الثامن من آذار (المعارضة) حين فقدت الغالبية البرلمانية، عوّضت ذلك بأكثريتها الطائفية. فقد تربّع الجنرال ميشال عون على القوة الرئيسية داخل المسيحيين، وهيمن حزب الله وحركة أمل على قيادة الطائفة الشيعية. لك أن تتخيّل، أن دائرة بنت جبيل الشيعية، حقّق التحالف الثنائي بين حزب الله وحركة أمل على تسعة وأربعين ألف صوت من أصل ثلاثة وخمسين ألف ناخب (93 في المئة)، مقابل أربعمئة صوت (0.7 في المئة) لقوى الثامن عشر من آذار والمستقلّين.
أما في مدينة صور فقد نال التحالف تسعة وستين ألف صوت من أصل خمسة وسبعين ألف ناخب، مقابل ألفي صوت لقوى الموالاة. وفي النبطية بثلاثة وستين ألف صوت من أصل نحو سبعة وستين ألف ناخب. أما مرجعيون حاصبيا فقد أعطى تسون في المئة من ناخبيها أصواتهم لتحالف حزب الله وحركة أمل.
وبالرجوع إلى النتائج التي حَصَلَ عليها ميشال عون داخل المسيحيين وحزب الله وحركة أمل داخل الشيعة يتبيّن أن العلاقة بين هذه القوامة على الطائفتين المسيحية (التيار الوطني الحُر) والشيعية (حزب الله وحركة أمل) لا يُمكن تجاوزها في أي تسويات يُقيمها الفائزون، وهو ما أكّد عليه جنبلاط في برنامج (بلا حدود) على قناة «الجزيرة» بتاريخ 17 يونيو/ حزيران الجاري.
فإذا كان لبنان ميثاقيا في حكومته حسب الدستور، فإن التعاطي مع بقية الطوائف يكون من خلال مركزها لا هوامشها. وباعتبار أن قوى المعارضة أمسكت بالطوائف التي تنتسب لها فإن القضايا الميثاقية ستكون معهم ومن خلالهم.
ثالثا: بيّنت الانتخابات اللبنانية الأخيرة حجم التأثير للبناني المُغترب وعليه أيضا. فقد جاء إلى لبنان أكثر من مئة وعشرين ألف ناخب لبناني مُغترب من أوروبا وكندا والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية وأستراليا والشرق الأدنى ودول الجوار.
وإذا كانت المعارضة وخصوصا المسيحية منها تتحدث عن إخفاقها في تجيير الناخب المُغترب للتصويت لصالحها سواء لقلّة الموارد أو سوء الاتصال، فإن ذلك يعني أن قوى الموالاة حصدت الغالبية العظمى من المُغتربين.
وبغضّ النظر لما نشرته أسبوعية «شتيرن» بأن دعم تيار المستقبل للمغتربين تراوح ما بين 500 و1500 يورو مع تذكرة سفر ذهابا وإيابا، أو لما قالته «نيوزويك» من أن بلدا خليجيا أنفق على انتخابات لبنان أكثر مما صُرِفَ على حملة أوباما، فإن الحسابات تشير إلى أن افتراض أن تملك الموالاة مئة ألف ناخب مُغترب فإن ذلك يقتضي توفير مئتين وخمسين مليون دولار.
وقد ظهر ذلك جليا في زحلة على سبيل المثال. بل إن هذه المنطقة شَهِدَت أمرا ملفتا آخر. فقد تعدّى الحجم الديمغرافي لطائفة من الطوائف في هذه المدينة من ثمانية عشر ألفا إلى ثلاثين ألفا، أي بفارق اثني عشر ألف صوت!
على أيّة حال، يُمكن هنا أن أصِفَ ما نالته المعارضة من خسارة نيابية على مستوى المقاعد على أنه «رضّة معنوية» لأن مشكلة لبنان أنه لا يستقيم بالمسطرة القانونية بقدر ما يستجيب للمقوّمات الطائفية.
وقد يكون ما قاله أحد الصحافيين في وصف أوضاع لبنان بعد الانتخابات صحيحا عندما قال «تغيّر كلّ شيء ولم يتغيّر كل شيء».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2479 - السبت 20 يونيو 2009م الموافق 26 جمادى الآخرة 1430هـ