العدد 2479 - السبت 20 يونيو 2009م الموافق 26 جمادى الآخرة 1430هـ

في خطابيهما... نتنياهو وفيّ لصهيونيته وعنصريته وأوباما وفيّ لإمبراطوريته

السيد محمد حسين فضل الله comments [at] alwasatnews.com

من فلسطين المحتلة أطلق رئيس حكومة العدوّ لاءاته الحاسمة التي تمثل سياسة إسرائيلية ثابتة غير قابلة للجدل: لا لعودة الفلسطينيين، لا مجال لدولة فلسطينية قابلة للحياة، لا لوقف الاستيطان، لا تنازل عن القدس عاصمة موحَّدة وأبدية لـ «إسرائيل»... ومع ذلك، فقد حظي هذا الخطاب بمباركة الرئيس الأميركي الذي اعتبره «خطوة كبيرة إلى الأمام»، لأن الخطة الأميركية الإسرائيلية التي رُسمت مسبقا اقتضت بأن يتلفّظ «نتنياهو» بكلمة الدولة الفلسطينية، وإن كانت على جزء بسيط من أرض فلسطين ومنزوعة السلاح والسيادة والكرامة، لينطلق بعدها الصوت الأميركي، وحتى الأوروبي، بأن الكرة باتت الآن في الملعب العربي، وأن على الأنظمة العربية، وخصوصا تلك التي تحمل عنوان الاعتدال، أن تسرع الخطى لملاقاة العدوّ في منتصف الطريق، ولتنضم إلى دعوته إلى مفاوضات دون شروط مسبقة.

لقد نطق رئيس وزراء العدوّ بالكلمة - الفخ (الدولة)، فأرعب حتى عرب الاعتدال بعدما انهال بالشروط التي نسفت المبادرة العربية من أساسها، وتركت للعرب أن يحددوا بأنفسهم مكان وزمان تشييعها إلى مثواها الأخير، وقال للفلسطينيين كلمة واحدة: «عليكم قبل أي شيء أن تعترفوا بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي»، ليبشّرهم بالاستعداد لتهجيرهم من فلسطين العام 1948 ومن القدس، وليطلب منهم أن يخرجوا من التاريخ والجغرافيا، ويقدّموا لعدوّهم صك الاستسلام النهائي الممهور بتوقيع ملزِم مفاده أن فلسطين ليست لكم، وأن من شرّدتهم العصابات الصهيونية في أصقاع الأرض وجهاتها الأربع كانوا هم المغتصبين للأرض، وليس اليهود الذين جاؤوا من أوروبا وأميركا وبلاد العالم ليغيّروا خريطة فلسطين، ويبدلّوا صورتها وواقعها وتاريخها، في نطاق خطة غربية حظيت بإجماع الغربيين، ومثّلت أكبر طعنة لحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

لقد كان نتنياهو في هذا الخطاب وفيّا لصهيونيته وعنصريته وحقده على العرب والمسلمين، تماما كما كان «أوباما» وفيّا للإمبراطورية الأميركية في خطابه في مصر، فهو قال كل شيء ولم يقل شيئا، وتناول مختلف عناوين الصراع ولم يقدّم شيئا، وأوحى للعرب بأنه رجل سلام في الوقت الذي وضعهم أمام خيار الحرب القادمة.

أما المبعوث الأميركي إلى المنطقة، فقد جاء ليستكمل ما توعّد به رئيس حكومة العدوّ، وليعمل على تحويل الخطاب الصهيوني التلمودي إلى حركة سياسية، وليتحدث بوضوح لافت عن أن الخطة الجديدة تقضي بإطلاق المفاوضات على المسارات كافة، مع «التطبيع الكامل بين إسرائيل وجيرانها»، كما قال؛ ما يعني أن الهدف يتركّز على محاصرة الفلسطينيين بالمسارات الأخرى، ودفعهم إلى التسليم بالشروط الإسرائيلية، وسَوْق العالم العربي والإسلامي إلى الفخ الإسرائيلي الذي يُصار فيه إلى اغتيال القضية الفلسطينية، وإنهاء الصراع على أساس الاعتراف العربي والإسلامي والفلسطيني بالهزيمة الساحقة، والاستعداد لإدخال «إسرائيل» في كل المفاصل العربية والإسلامية، لتهديم وتهويد وإبادة كل ما بقي صامدا وثابتا إلى الآن أمام الهجمة الدولية والإسرائيلية.

إنني أقول للفلسطينيين، للشعب الذي لاحقته مجازر العدوّ منذ أكثر من 60 عاما: لقد أنهكتكم السياسة العربية المتواطئة، والأنظمة المتخاذلة، وأخذ منكم العدوّ كل شيء، حتى المياه الجوفية وحتى السماء التي أسقط سيادتها بالكامل، وحتى حقول الزيتون التي تم تجريفها، ولم يبق لكم ما تخسرونه، وليس في جعبتكم ما تقاومون به إلا وحدتكم، وتماسككم، ولم يبق لكم من خيار إلا إعادة إطلاق حركة المقاومة في نطاق خطة وطنية جامعة، وخصوصا أن العدو لم يكشف عن خططه ونياته وأهدافه فحسب، بل كشف الإدارة الأميركية الجديدة على حقيقتها، واستطاع تعريتها، وقدّم صورتها الواضحة للشعوب العربية بعد كل محاولات هذه الإدارة لتجميل صورتها بخطابات منمّقة، وكلمات منافقة، وأساليب خادعة.

وأقول للبنانيين: إن العدوّ، وإن لم يُعلن الحرب على لبنان، فقد وضعه أمام خيارين: إما الاقتتال الداخلي لتمرير التوطين، وإما الذهاب مخفورا إلى طاولة التفاوض التي حسم أمرها نهائيا بما أسماه «نتنياهو» «الإجماع الدولي الواسع على حلّ مشكلة اللاجئين» «خارج حدود إسرائيل»، كما قال... وبالتالي فلم يبقَ أمام اللبنانيين إلا الرد عبر خيار حاسم، ينطلق من إجماع لبناني داخلي برفض التوطين، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الرفض لا يمكن أن يتحوّل إلى موقف رادع وحاسم إلا باعتماد لبنان كلّه على ورقة المقاومة، التي لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تتحوّل إلى ورقة سجالية، بعدما أثبتت أنها عنصر القوة الرادع الذي أخضع العدو ودفعه للاعتراف بالعجز والفشل، وبالتالي فإن هذا العنصر قابل لفرض شروطه على العدو، وخصوصا إذا تحوّل إلى قوة سياسية موازية تحظى بالإجماع اللبناني في مؤتمر الحوار وغيره.

أما العرب الذين سقطت لاءاتهم الواحدة تلو الأخرى، ولم يبق أمامهم إلا ورقة التوت المسمّاة مبادرة عربية، فحري بهم أن ينهضوا من كبوتهم التاريخية، وأن يستمعوا إلى نبض شعوبهم، وأن يرجعوا إلى أحسابهم وأصولهم وتراثهم، وأن تستمع قياداتهم الرسمية إلى مطالب شعوبها، لأن هذه الشعوب قادرة على تغيير المعادلة في المنطقة وتعديل صورة الأوضاع لمصلحة العرب والمسلمين، ولمصلحة الفلسطينيين بالذات حتى في الوقت الذي تريد الأنظمة أن تطمئن إلى استمراريتها.

إننا ندعو الأنظمة العربية إلى الاعتبار من المشهد الشعبي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن هذه الحيوية الشعبية التي لا مثيل لها في العالم كله، وحتى عندما تعترض هذه الحيوية بعض السلبيات، أو يشوبها شيء من الإرباك، بفعل الحرية التي وفّرها النظام، وأتاح فيها للشعب أن يعبّر عن رأيه بوضوح وشفافية قبل الانتخابات وأثناءها وبعدها، فإن ذلك يمثل مدعاة للاحترام وللاعتزاز بهذه الحركية الإسلامية التي تضاهي بحيويتها وامتدادها وتفاعلها أكثر ديمقراطيات العالم نضوجا ورسوخا.

ونحن في الوقت الذي نبعث لهذا الشعب الحر والأبيّ بتحيات الإسلام المفعمة بروح الحرص على هذه الثورة المباركة التي أسقطت طاووس أميركا والصهيونية في المنطقة، وجعلت إيران تتقدّم كل دول العالم في دعم حركات التحرر وفصائل المقاومة، نريد له، وفي رحاب تعبيره الحرّ عن الانتخابات، والملاحظات التي قد ترسمها جهة هنا أو جهة هناك، نريد أن يأخذ في الاعتبار مصلحة الجمهورية الإسلامية، ومصلحة النظام الإسلامي، ومصلحة الأمة كلها في حفظ وصون هذه الدولة التي مثّلت الامتداد الحقيقي للخط الإسلامي المحمدي الأصيل، والتي أدخلت الرعب في قلوب أعداء الأمة، وخصوصا الكيان الصهيوني، والتي أكدت من خلال تجربتها المميّزة أن الإسلام قادرٌ على أن يحتضن مشروع الدولة العادلة، وأن يقدّم النموذج والقدوة الصالحة في هذا المجال، مع كل ما قد يعترض مسار هذه الدولة من تحديات وإخفاقات داخلية، وتعديات وضغوطات خارجية.

إنني أتوجه بالنداء إلى كل هذا الجيل من قيادة الثورة، هذا الجيل الذي رافق الإمام الخميني وانطلق معه في المسيرة الإسلامية الظافرة، أن يدرس كل ردود الفعل السلبية التي تحاول تشويه هذه الحركة الشعبية الحيوية في هذا الجانب أو ذاك، وليكن هدفهم هو حماية هذه التجربة وقطع الطريق على كل المحاولات الرامية لإحداث اهتزاز حقيقي في النظام الإسلامي، وفي صورة إيران وسمعتها وحركيتها.

أما لبنان المنهمك في هذه الأيام بترتيب ساحته الداخلية، على مرأى ومسمع من الجهات الإقليمية التي باتت أقرب إلى رفض أية حركة لبنانية محلية تقود إلى تخريب التفاهمات الخارجية، أو تعطيل فاعلية مانعة الصواعق العربية - العربية... فقد آن الأوان للمسئولين فيه أن يدركوا أن الأطراف الإقليميين قد رسموا سقفا يحفظ توازناتهم الجديدة، ويحمي توجهاتهم القابلة لتوسيع دائرة التفاهم والتنسيق فيما بينهم، وبالتالي فقد بات مطلوبا من اللبنانيين أن يبادروا إلى رسم تفاهم داخلي فعّال يحمي المصلحة الوطنية، ويجعل الشعب يطمئن إلى وجود دولة تعنى بتأصيل روحية المشاركة التي تجعل الجميع يشعر بأنه معنيّ بالسعي لتحقيق حلم الدولة العادلة والقوية، والتي تؤمّن الخير والرفاه والعدل لأهلها في الداخل، وتقطع الطريق على المتربصين بها شرا من الخارج، وتعيد البلد إلى موقعه الطبيعي، ودوره الأصيل في رفد حركة المقاومة، والانفتاح على واقع الحرية والعزة والكرامة في المنطقة والعالم.

إننا نريد من اللبنانيين جميعا، ومن المسئولين بخاصة، أن يركزوا جهودهم على كيف يمكن التأسيس لمستقبل زاهر للبلد، وأن يتحركوا في نطاق تأصيل المواطنة، وحلّ المشاكل المستعصية من اقتصادية ومعيشية وتربوية وغيرها، وأن يكون هاجسهم حماية الوطن في توازناته ومنطلقاته ومصالحه، لا الرضوخ إلى التعليمات الوافدة من هذا الموقع الإقليمي أو ذاك الموقع الدولي، لأن الأساس هو مصلحة الوطن والمواطن، لا مصالح الآخرين الذين يريدون للبلد أن يكون رهينة في أيديهم، وفي أيدي الأعداء والطامعين.

إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"

العدد 2479 - السبت 20 يونيو 2009م الموافق 26 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً