تخيَّلوا أنفسكم، وأنتم تنظرون إلى سورية بمِجهَر دقيق. أبعدوا مدى المنظار عن داخلها، واجعلوها، كمن ينظر إليها وهي على الخريطة. ماذا سترَوْن؟ إنها في نقطة التماس بين الجميع. في الشمال تركيا، وعموم آسيا الوسطى، وصولاً إلى روسيا. في الشرق، العراق ومن خلفه إيران، وامتدادًا نحو جنوب وجنوب شرق آسيا حيث الصين والهند وباكستان وأفغانستان والنمور الآسيوية تاليًا حتى أقصى الشرق حيث اليابان مركز الثقل الرأسمالي في القارة.
في الجنوب، الأردن ومن تحته شبه الجزيرة العربية حتى الخليج العربي وبحرَي العرب والأحمر والمحيط الهندي وصولاً إلى ارتدادات خطوط رأس الرجاء الصالح. وفي الغرب، البحر الأبيض المتوسط، والشمال الأفريقي، يقابله الجنوب الأوروبي وجزره، امتدادًا للأراضي الواطئة حتى غرب القارة القديمة، ومن خلفها الأطلسي بهيجان بحره الواصل إلى الأراضي الأميركية الشمالية، نزولاً حتى الوعاء اللاتيني المعتَّق. هذه الخطوط الجغرافية الأربعة، الممتدة والمتقاطعة فيما بينها تكون مركزها دمشق.
هذا الموقع المهم لسورية، ضاعَفَ من أهميته، أوضاع المنطقة العربية المضطربة. فوجود «إسرائيل»، واحتلال العراق، وتباين العلاقات الدولية على منطقة الهلال الخصيب، ما بين حلفاء وأعداء لطرف واحد، ثم تمددهما على سماطين من المحاوِر جعلها أكثر أهمية. كانت سورية في تلك اللعبة الجغرافية والسياسية والأمنية رقمًا صعبًا ومربِكًا في آن واحد لجيرانها وللقوى الدولية الناشطة بقربها.
دخَلَت لبنان، بتفويض أميركي وأوروبي. انزلقت في حربه الأهلية، فحَمَت حلفاءها من المسيحيين والدروز والشيعة والسُّنة، ومَنْ ركِب قاطرتها، وعاقبت مَنْ خاصمها مِنْ ذات الطوائف، وزادَت عليهم خصامها مع منظمة التحرير الفلسطينية. جاء الطائف، فكانت فيه حاضرة بقوة. وجاء ما بعد الطائف، فكان لها دورٌ أكبر من دورها السابق، حين أنهَت الظاهرة العَوْنيَّة عسكريًا، بالاتفاق مع الفرنسيين على إخراج الجنرال، فكانت بجيوشها الحاشدة حاضرة هناك دون شك.
وخلال الحرب العراقية الإيرانية، كان الموقف السوري عاملاً رئيسيًا في رسم شكل الصراع القائم في المنطقة، ما بين إيران ما بعد الشاه وعراق البعث الذي كان في خصومة دَم مع السوريين. فاصطفاف دمشق كقِطْر عربي مع طهران ضد بغداد، أفقَدَ الحرب حسّها القومي (عرب/ فرس) ومذهبيتها (سُنَّة/ شيعة)، فضلاً عن تحوُّل المطارات السورية إلى محطات لنقل السلاح السوفياتي والليبي وسلاح السوق السوداء العالمية، المحمولة إلى إيران خلال حربها مع العراق.
أكثر من ذلك، فقد شاركت سورية أيام حافظ الأسد، بقواتها العسكرية في حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي البغيض، جنبًا إلى جنب مع القوات الأميركية، في قفز منها على الكثير من قواعد لعبتها مع الاتحاد السوفياتي حينها، والذي كان يعطي النَّزْع الأخير في شهيقه. وهو تطوُّر كان له كبير الأثر، في أن تشهد فترة التسعينيات علاقات خليجية سورية متطورة، وذات أبعاد جديدة.
كان السوريون أيام حافظ الأسد، يُطبقون نظرية ليو تولستوي الروسية بحذافيرها: أقوى المحاربين هما الوقت والصبر. كانوا كثيرًا ما يعتمدون على عامل الوقت، الذي قد تخرِّجه لهم الأحداث، وتدافع الأطراف مع بعضها، مرة بالصلح ومرة أخرى بالخصومة، ثم الصبر، الذي لزِمُوه في ملفات كثيرة، لكنه كان بمثابة تسكين الودائع الطويلة، وانتظار تاريخ كسرها، كي ينالوا أرباحًا أكبر منها.
لكن دمشق أيضًا، لم يكن بوسعها أن تقوم بذلك لولا براغماتيتها. فهي في الوقت الذي تعاونت فيه مع الإيرانيين في حربهم مع العراق، إلاَّ أنها لم تسمح لطهران، أن تأكل عنها لبنان، بل ولم تسمح لها حتى بأكل الشيعة في الجنوب، عبر تشكيلها لحزب الله، فتغوَّلت دمشق في حركة أمل، وفي العوائل والعشائر الشيعية التاريخية في الجنوب اللبناني، والتي كانت لها تأثيرات (ولازالت) في دفع الشيعة بأيِّ اتجاه. وهي تعاونت مع السوفيات، وأخذت منهم السلاح، وعقيدة الدفاع لجيشها، لكن تعاونها هذا لم يجعلها تتحوَّل إلى كوبا شرق أوسطية، بل كانت في تعاون وثيق مع الأميركيين واستخباراتهم في المنطقة، وبالخصوص في لبنان، والملف الفلسطيني.
وهي دَعَمَت الفلسطينيين، لكنها كانت تضرب جزءًا من تنظيماتهم الكبيرة، وبالتحديد منظمة التحرير الفلسطينية، سواء عبر ضربها مباشرة، أو عبر تقوية تنظيمات فلسطينية منافسة لها. وهي كانت في حالة من التراضي مع الأتراك بشأن ملفات سياسية واقتصادية في القوقاز، لكنها كانت تدعم عبد الله أوجلان ومعه أكثر من نصف الكتلة الكردية في الداخل التركي.
وهي كانت ضد حكم صدام حسين والبعث في العراق منذ السبعينيات، لكنها كانت معه حين انهار نظامه، وفتحت لقياداته أبوابها، حتى تحوَّلت إلى مركز جغرافي بديل لبعث اليسار، بل وساهمت في تقوية جناحيْه (الدوري/ الأحمد) وتسهيل عبورهما وخروجهما وتشكيلاتهم المسلحة إلى العراق لقتال الأميركيين. بل وتحوَّلت سورية، إلى عمق جديد للمكوِّن السُّني العراقي، الذي يجاورها من صحراء الأنبار، والذي وجَدَ نفسه بلا غطاء بعد سيطرة الأحزاب الجديدة على الحكم في العراق.
هذه الظروف، عندما تنظر إليها بتمعن، سترى أنها محور الصراع في المنطقة بأكمله. فمَن لا يقول إن لبنان هو جزء من الصراع العربي الإسرائيلي، بوجود حزب الله والمخيمات الفلسطينية فيه، يجانب الصواب حتمًا. ومَنْ لا يقول بأن العراق هو جزء أساسي من الصراع الدولي بعد الاحتلال الأميركي له، هو يقرأ الأمور معقوفة. ومَنْ لا يعتقد أن إيران تعتبر الوعاء الأكبر لمشاكل الغرب وحلفائه في المنطقة، هو لا يملك جزءًا من الحصافة. وإذا ما قاربنا كل هذه الملفات، سنرى أن السوريين هم في قوسها بشكل أساس، بل وقطب الرحى في العديد من تفصيلاته السريِّة.
هذا التواجد السوري مع ظروف وأزمات وملفات المنطقة المفتوحة، هو الذي جعل من أزمتها أزمة عالمية اليوم، وتنقسم عليها القوى الدولية والإقليمية، وحتى الأحزاب والقوى السياسية في المنطقة بما فيها القوى الفلسطينية.(للحديث صلة).
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3633 - الجمعة 17 أغسطس 2012م الموافق 29 رمضان 1433هـ
إيه
أيوه هي كدة و ما فيش غير كدة لا فض فوك
نقطة
أستاذ لا اتفق معك في الجزاء الاخير من المقال والذي يقول ان ( ومن لا تعتقد أن ايران تعتبر الوعاء الاكبر لمشاكل الغرب وحلفائة في المنطقة )نعم هي وعاء لمشاكل الحلفاء و لاكن هو باب استثمار للغرب لتواجدة الدائم في المنطقة... أستاذ تخيل لو ايران في ود و وائم مع جيرانها كيف ستصبح ايران و المنطقة في ازدهار و نعيم
21إسمع
أي نهضة في البحرين ويتم جلب ..و...و...و...و...وتسكينهم في الوظائف على حساب البحريني وحتى الدوائر الحكومية تميز بين الطوائف هذا من تلك الذائفة إذاً لايعمل في وزارة ... و.... و.... و... و..... و.... وبقية وزارات بدأت تتخذ نفس المنهج المخطط له فأي نهضة غير حمش الصور وتهييحها وتطفيشها فأي قلبٍ يتحمل التهميش والاذلال هداك الله ولاجغلك من المشامتين.
مقال رائع
مقال رائع وكتابة متقنة من الكاتب المتمكن في تحليل السياسات الخارجية للدول...أبوجعفر
زواريب
من أين لك كلمة زواريب ؟ ؟ بالله زدنا علما بم فاتنا منه
عندما تنظر إليها بتمعن، سترى أنها محور الصراع في المنطقة بأكمله.
مقال رصين جداً ورغم قناعتي بديكتاتورية النظام السوري وحق الشعب في التغيير فان الحكم مرة اخرى يستثمر اخطاء من اختطف الانتفاضة الشعبية وسيخرج من المعركة أقوى من السابق!!