تلعب الرياضة دوراً مهماً في تشكيل ثقافة المجتمعات دون استثناء بما في ذلك مجتمعنا، وإن اختلف هذا الدور إلى حدٍ ما من مجتمع إلى آخر، ولها دائماً انعكاس واضح فيما تتمتع به المجتمعات من صفات سلبية أو إيجابية.
فالمجتمع الذي يعاني من إحباط دفين تتمثل فيه مشكلات الفقر والبطالة والأمية والعنصرية، لن تكون الرياضة بالنسبة له مجرد وسيلة للتسلية والترفيه، بل قد تكون ملاعبه الرياضية مهيأة إلى أن تتحول إلى ساحات للتنفيس عن الصراعات الاجتماعية الخفية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هناك أسباب نفسية كامنة وراء نزول الناس إلى الشوارع بعد فوز المنتخب؟
من يعتقد أن احتفال الناس في الشوارع بعد فوز المنتخب بالمباريات، أو احتجاجها عند خسارته، نوعٌ من تضييع الوقت والتسلية فهو لم يبذل جهداً فكرياً كافياً لفهم سلوك الجمهور. ومن يردد كلام مذيعي البرامج الرياضية بأن الذي دفع الشباب إلى النزول هو الوطنية والحب الكبير لعلم بلادهم فمن المحتمل أن يكون قد وقع في مصيدة فخ الإعلام الرياضي.
تعودنا كثيراً أن نستغرب ونتهكم على أحداث تاريخية اعتقاداً منا بأنها لا تستحق أن تكون سبباً في قيام حروب تزهق فيها الأرواح وتسفك فيها الدماء، كما حدث في حرب البسوس وداحس والغبراء. لكن المتأمل يعلم أن حقيقة الحرب لم تكن من أجل الناقة وحدها، فهي ليست السبب، ولكننا عادة نختزل الأشياء في ظواهرها دون التنقيب عن بواطن الأمور، فنركز على القشة التي قصمت ظهر البعير ونغض الطرف عما كان بجعبة ذلك البعير.
الناس تنزل إلى الشوارع لأن لاعب كرة القدم قد تحوّل هذه الأيام إلى رمز يتأثر به قطاع عريض من الشباب؛ إما بسبب السطوة الإعلامية وإما بسبب حبهم لكرة القدم باعتبارها اللعبة الشعبية الأولى، وفي هذا السياق يقول ريجيس دوبريه: «هناك رواج عالمي للصورة الإعلامية على حساب الكلمة المكتوبة. فلم يعد (المثقف) هو الذي يصنع العالم، فهناك فاعلون اجتماعيون جدد هم الأقدر على صنع العالم وإعطائه معنى. إنهم رجال الأعمال ومصممو الأزياء ونجوم الغناء وأبطال الشاشة ولاعبو كرة القدم ومهندسو الحواسيب وأباطرة المؤسسات الإعلامية».
والدراسات الحديثة تشير إلى أن أكثر الشباب في الوطن العربي يعيشون تحت خط الفقر، فقد يرى بعض ذوي الدخل المحدود في الرياضة قارب نجاة من الفقر. فبحسبة بسيطة يجد الشاب أن اللاعب الذي لم يتجاوز عمره العشرين عاماً، يتقاضى راتباً أضعاف ما يحصل عليه طبيب بعد سبع سنوات من الدراسة، ويتجاوز ما يحصل عليه أفضل محاضر في أرقى الجامعات!
من الناحية السيكولوجية، فإن الاحتفال في الشوارع له خلفية تاريخية في ذهن الشاب العربي، فقد تشكلت بالتدريج علاقة ودية بين الشاب وكرة القدم؛ لأن أغلب الطلاب في الوطن العربي عندما يهربون من المدارس لا يجدون أمامهم إلا لعب كرة القدم في الشارع والحارات الشعبية، ويستمرون في اللعب حتى ينتهي اليوم الدراسي، ثم يعودون إلى منازلهم وقد استقر في عقلهم الباطن ما كتبه بول فندلي «لا سكوت بعد اليوم»، ولكن شعارهم «لا مذاكرة بعد اليوم! لعب كرة القدم أهم»! أضف إلى ذلك اننا نعلم جميعاً أن التعليم تحوّل بفضل مناهج الحفظ إلى مجرد ديكور اجتماعي لا يستخدم إلا عند التفكير في الخطوبة والزواج، وأحياناً كثيرة يتم التغاضي عنه إذا كان المتقدم ثرياً! الاحتفال في الشوارع نوعٌ من البحث عن «ثقافة الفرح المفقود» بسبب حالة الإحباط المتراكم الذي يسيطر على نفسيات الشباب؛ حتى لو كان هذا الفرح مصطنعاً من أجل تسكين الآلام. الشباب يحتفلون لكسر القيود الاجتماعية الصارمة، فهو التجمع الوحيد الذي لا يدخلهم في حرج مع أجهزة الأمن، ولأن متخذي القرار في وطننا العربي يفكرون بعقلية المطرقة؛ فإنهم ينظرون إلى كل مشكلة على انها مسمار.
الناس تبحث دائماً عن رمز تسير خلفه، وإذا لم يجدوه في الواقع فهم يخترعونه لا شعورياً في وجدانهم. منطقة الفراغ السياسي وغياب القدوة سبب دفين أيضاً في خروج الناس إلى الشوارع، وكأنهم عقدوا مقارنة بين الرياضي والسياسي، فوجدوا أن لاعب الكرة أحق بالتقدير والإعجاب؛ لأنه أثبت جدارته في الميدان، أما السياسي فيتبوأ مكانته بالولاء أو العائلة أو المال أو من خلال الإعلام الموجّه؛ لذلك نجد الجمهور يهتف للرياضي لأن هذا الجمهور يحب الأمور على المكشوف، فليس للبسطاء أية اعتبارات أخرى غير الكفاءة في الملعب.
نعم! لقد تنبه الساسة لذلك أخيراً، وأدركوا أن «لعبة السياسة» تحتاج دائماً إلى «لعبة كرة القدم»، بل لعلها غدت من متطلبات مشروع الفوضى الخلاقة وبناء شرق أوسط جديد؛ فتصبح الصورة غامضة لدرجة يكون تاجر الخضار فيها أهم من أي باحثٍ في مراكز الدراسات الاستراتيجية، والسباك يتحول إلى رجل أعمال، ومستورد الدجاج يصبح مليونيراً، وهكذا تستمر حالة فقدان الرؤية والبوصلة وتستمر معها حالة اللا سلم واللا حرب.
قد يرد البعض على ما ذكرناه بأن كرة القدم لعبة شعبية على مستوى العالم، وان اهتمام الشعوب بها لا يتناقض مع اهتمامها بالشأن العام! ونقول: هذا الكلام صحيح في البلدان التي تقوم بوضع كل شيء في مكانه وتتحرك في حياتها بناء على قانون الأولويات فتفرق بين الجد واللعب، لكن ذلك لا ينطبق على شعوب يتحول اهتمامها بكرة القدم تحت الإلحاح الإعلامي وتشتيت الانتباه عن قضاياها الأساسية بهوس جماعي مسكون بالتعصب الذي ينتهي دائماً وأبداً بالعنف اللفظي والبدني؛ فهناك دول إفريقية فازت على أميركا في كرة القدم في الوقت الذي تعيش فيه شعوبها حياة المسغبة. وقد تهزم أميركا كروياً، لكنها لم تغفل لحظةً عن أولوياتها بإنزال مركبتها الفضائية «كيورويزيتي»، حيث علق الرئيس باراك أوباما: «أميركا تصنع التاريخ بالهبوط الناجح لأول مركبة فضاء تهبط على كوكب آخر»، وهو كوكب المريخ. ولعل أعظم العقول التي قدمت للبشرية التليفون والكهرباء والتليفزيون والطباعة والانترنت والذرة والدواء لم تمارس الرياضة مطلقاً، ويكفيك أن تدخل إحدى صالات كمال الأجسام وتتحدث مع بعضهم حتى تتأكد بنفسك من عدم صحة مقولة «الجسم السليم في العقل السليم»!
السنن الكونية تحتم أن الناس سوف تنزل للشارع بعد كل مباراة، وعلم الاجتماع الرياضي أيضاً سوف يقوم بتحليل الظواهر الرياضية ذات الأبعاد الاجتماعية، ويدرس نتائجها وأسبابها الدفينة والدوافع التي تقف وراءها، وسوف لن ينظر للقشة ويترك حمل البعير.
وعلم الاجتماع الرياضي يدين، وبشكلٍ مؤدب، التعصب المقيت الذي يحدث في مباريات كرة القدم والذي لا يجب أن نسأل عنه الجماهير المغلوبة على أمرها، وإنّما يسأل عنه الإعلام الرياضي المكتوب والفضائي الذي عادةً ما يبحث عن شعارات نارية يطلقها بغض النظر عن النتائج، لأن المهم لديه هو أن يلهب حماسة الجماهير لكي تفرغ طاقتها المكبوتة حيثما كان، سواءً في الملاعب أو في زوايا الحارات أو في الشوارع العامة، طالما بقي هناك جهات تستفيد في جميع الأحوال.
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 3633 - الجمعة 17 أغسطس 2012م الموافق 29 رمضان 1433هـ