هناك قصة تروى عن رئيس أسرة النواب التي ينحدر منها الشاعر المعروف مظفر النواب، وهي من أسر الراجات الهندية الحاكمة، وكان قد اتفق معها الإنجليز على التخلي عن ملكهم والرحيل إلى العراق لقاء رواتب منتظمة تدفع بالليرات الذهبية وأسكنوهم بيتاً مهيباً مطلاً على نهر دجلة، وكان رئيس العائلة النواب الكبير متهماً بالجنون، فقد كان يقف عند باب منزله في دشداشة بيضاء ولحية طويلة بيضاء وصلعة تحيطها جذائل بيضاء.
وحيث إن الإنجليز تعهدوا بدفع رواتب منتظمة له، لم يكن للنواب الكبير أي شيء يفعله في هذا البلد الغريب. وقد اعتاد على قضاء ساعات الفراغ الطويلة بالمشي ذهاباً وإياباً في فناء البيت، وفي يده ليرة ذهبية مما دفعها له الإنجليز، يرمي بها في الهواء ثم يلقفها بيده على نحو ما يفعل الأكروباتيه في السيرك.
وبينما كان يزاول هذه الهواية سقطت الليرة من يده وتدحرجت ووقعت في البالوعة. لم يكن بوسعه مطلقاً استعادتها. جاء بليرة أخرى واستأنف هوايته ولكنه بعد بضعة أيام، استدعى أحد المختصين بنزح البالوعات. سأله كم يتقاضى عن استخراج هذه الليرة المفقودة. فقال له ثلاث ليرات. قال ذلك مبتسماً وهو يتوقع من النواب أن يصرفه، ولكنه بدلاً من ذلك قال له هيّا. باشر النزاح بالعمل، وجاء بمعداته من حبل وسطل وسلم وقضى النهار في نزح البالوعة حتى عثر على الليرة فجاء بها ملطخة بالأوحال والسيان وقدمها لسيد البيت. فقال له ضعها على هذه الورقة. ففعل. ثم ذهب النواب وجاء بثلاث ليرات ذهبية نظيفة تلمع. أعطاها له شاكراً. تسلمها النزاح واستغرب من أمره فسأله لماذا فعل ذلك، ضحى بثلاث ليرات نظيفة من أجل ليرة واحدة وسخة؟ فأجابه قائلاً: منذ أن أضعت تلك الليرة في البالوعة، انشغل دماغي بها. إذا نمت، إذا قمت، إذا تمشيت في فناء البيت، ورأيت البالوعة، تذكرت الليرة التي فيها. ورحت أفكر بها وأتصورها في مكانها في البالوعة. وألوم نفسي وأسأل لماذا وكيف تركتها تسقط هناك؟ لم يهدأ لي بال، ولا طاب لي النوم. والآن وقد استخرجتها أستطيع أن أريح فكري وأنام صافي البال. وكانت هذه القصة من بين الاسباب التي جعلت المجتمع العراقي يظن أن هذا العجوز (مخبل).
في البحرين لسنا جالية هاجرت أو هجّرت من بلدها، إننا أبناء هذه الأرض، ولسنا قوماً عابرين منها لغيرها، ومن الطبيعي أن يريح سادة الارض فكرهم وينامون صافي البال، ومن غير الطبيعي أن يكونوا مهددين في أرزاقهم وأمنهم وحرياتهم.
ما يؤرق بال المجتمع اليوم ليس ليرة ذهبية سقطت في بالوعة، بل سقوط وطن بأكمله في بئر عميقة من الخصام الأهلي والعقم السياسي الذي يحبل بالأزمات وتتناسل منه المشاكل، إعلام ينضح بالكراهية ومنابر دينية تتخاصم وتخوض حروباً كلامية لا تنتهي، ظاهرها تدين وباطنها النقيض. جمعيات سياسية سخرت كل جهودها في محاربة مكوّنات اجتماعية تعتقد أنها مكونات مناوئة ومتآمرة على الوطن. وجهاء مزيفون يطلعون علينا ببيانات تطالب بإغلاق دور العبادة واعتقال كل رأي مخالف للمزاج الرسمي. مواجهة يومية وليلية بين فتية ورجال الأمن الذين أدمنوا كبس الزناد. معتقلو رأي خلف القضبان ينتظرون نعمة الحرية. مفصولون عن الأعمال بانتظار أن تسوّى مشكلتهم حسب توصيات تقرير بسيوني، وجرحى مازال الخوف يمنعهم من تلقي العلاج والرعاية الصحية من المراكز الصحية والقائمة تطول. وأنا على ثقة أن كثيراً من التفاصيل التي خلفها فبراير 2011 مازالت طي الكتمان، وبشاعة الحدث لم تتضح كامل تفاصيله الحقيقية بعد، إذ مازالت ذيول فبراير معنا بكل إرثها الثقيل.
نفوس أرهقتها الأوجاع وأضنتها الآلام، ورغم ذلك هي نفوس أبيّة وتحتسب صبرها ونضالها عند الله الذي لا تضيع ودائعه، أرواح لا تعرف الحقد لكنها تعيش المرارة وهي تشاهد أوضاعها تزداد سوءًا وخيرة شبابها بين مفصول عن العمل أو مهدّد، بين معتقل أو يكاد على أطراف نقاط التفتيش، وما من عين ترى ولا قلب يحزن.
في واحدة من اللقاءات الشعبية التي تزامنت مع مساعي الحل والحديث عن الحوار المزمع عقده بين السلطة والمعارضة قبيل الضربة الأمنية في مارس 2011 حضرت في ساحة البسيتين لقاءً كان المتحدث فيه الشيخ عبداللطيف المحمود، وضمن حديث طويل له حول تطورات الأوضاع قال «كان أهلنا في الماضي يطبخون في إناء كبير يوضع على ثلاث أحجار كبيرة، وكذلك هي البحرين: بيت الحكم، السنة والشيعة، ولا يمكن أن نقبل بأي حوار يستبعد أهل السنة من أي تسوية للأزمة السياسية في البلد، فأهل السنة هم كالشيعة لهم مطالبهم أيضاً» انتهى كلام المحمود.
بعد أشهر من هذا اللقاء، سيكون لرئيس تجمع الوحدة الوطنية تصريحٌ مناقضٌ تماماً لما شدّد عليه في ساحة البسيتين، فالمطالب تبخرت، وحديث الأخوّة بين السنة والشيعة نُسخ بقدرة قادر، وصارت «الثقة» بين السنة والشيعة منتهية حسب تصريحاته المعلنة في صحف تحرص كثيراً على الحقيقة والمصداقية.
إنها فوضى الحواس بعد الإذن من الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، فالحالة البحرينية تستعصي على الفهم، وتتفوق على أي محلل سياسي يجيد التعاطي مع معضلات السياسة وأزماتها، لأنه واقعٌ غير معقول ولا ينبني على معطيات معهودة في دنيا الأزمات السياسية. وعليه، فالتحليل مهما كان دقيقاً لا يعدو أن يكون ضرباً من التخمين والاجتهادات الشخصية.
وأياً ما كان عليه الوضع، فإن البحرينيين يريدون استعادة الدرهم الذهبي من البالوعة، أعيدوا إليهم الأمن والسلام والحب وأريحوهم. أعيدوا لهم البحرين.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 3629 - الإثنين 13 أغسطس 2012م الموافق 25 رمضان 1433هـ
بكل إحترام
من أغبى المواضيع التي قرأتها .
مقال ممتاز
مقال جميل ويضع الاصبع على الجرح ولكن اين المعتبر؟؟؟
نحب هذه الديرة
الساكت عن الحق شيطان أخرس
فكيف إذا كانت شريحة كبيرة من المجتمع أو جمعيات أو أو كانت تشجع ....على ممارساتها في القمع و الانتهاكات و تبارك لها ليلا نهارا سرا و علانية دون أي وازع ديني أو انساني أو وطني سوى تحقيق أطماعها الشيطانية .
تحياتي / أبو السيد الحسين
فعلا فوضى!
يخونون من يطالب بحقوقه في البحرين ويقفون مع الشعوب الاخرى! يجرمون من يسد شارعا محتجا هنا ويعتبرون من يحمل سلاحا ليفجر او يقتل بطلا هناك! ان تحتك برجال الشرطة بالبحرين فانت ارهابي ولكن من يقتل الجنود السوريين فهو بطل مجاهد!