يقول سيد الخلق أجمعين الرسول الأعظم محمد (ص) «المرء كثير بأخيه»، وقد سبق بهذا القول قول الفيلسوف الفرنسي فولتير: «أيتها الصداقة: لولاك لكان المرء وحيداً، وبفضلك يستطيع المرء أن يضاعف نفسه وأن يحيا في نفوس الآخرين».
هكذا يتعاظم موضوع الصداقة باعتبارها ظاهرة إنسانية لا تنحصر حدودها في إطار الفكر الفلسفي اليوناني القديم متمثلاً فيما كتبه أرسطو في الصداقة وضمنه كتابه «علم الأخلاق»، ولا هي تقف عند حدود ما جاء في الكتابات الأدبية والدينية في تراثنا العربي والإسلامي، بل يتسع نطاقها ليشمل الدراسات النفسية والاجتماعية المعاصرة أيضاً.
يعرف أرسطو الصديق بأنه «من يعيش معك ويتحد وإياك في الأذواق، والذي تسره مسراتك وتحزنه أحزانك». وجاء في لسان العرب للعلامة ابن منظور: «الصداقة من الصدق، والصدق نقيض الكذب. فالصداقة هي صدق النصيحة والإخاء، والصديق هو المصادق لك، والجمع أصدقاء وصدقان وأصادق». وفي كتاب «الفروق في اللغة» لأبي هلال العسكري: الصداقة تعني اتفاق الضمائر على المودة، وهو يفرق بين الصاحب والقرين ويشترط أن تفيد الصحبة انتفاع أحد الصاحبين بالآخر. أما العالم المعاصر سيرز Sears فيعرفها بأنها علاقة بين شخصين أو أكثر تتسم بالجاذبية المتبادلة المصحوبة بمشاعر وجدانية إيجابية .
والحقيقة أن هناك اهتماماً غير مسبوق بالصداقة، وهو نتيجة علمية لموضوع «الاقتداء» بوصفه أهم الآليات المسئولة عن تشكيل آثار الصداقة في التنشئة الاجتماعية، حيث تفترض نظرية التعلم الاجتماعي أن قدراً كبيراً من التعلم يتم عن طريق مشاهدة شخص آخر يسمى القدوة أو النموذج، (model)، وهو يؤدي الاستجابة المرغوب فيها بحيث يتم تشجيع الشخص على محاكاة الاستجابات الصادرة عن القدوة؛ لذا فقد نبه الرسول ( ص) على أهمية الصحبة بقوله: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»، وقال سرفانتس: «قل لي من تصاحب، أقل لك من أنت».
ويمكننا أن نعتبر الأصدقاء نماذج اجتماعية يتعلم منها الأطفال والمراهقون (وعلى الأخص الشباب) العديد من الخبرات والمهارات وأنواع السلوك الإيجابي والسلبي، وقد عزز العالم باندورا (Bandura) هذه الفكرة بقوله: «إن سلوك الاقتداء يتأثر ويزيد بسبب الدعم الاجتماعي؛ وذلك عندما يُشاهد القدوة وهو يتلقي الدعم عقب إصداره السلوك المرغوب فيه»، وكأنها إشارة إلى ضرورة دراسة الحاجات الإنسانية للشباب.
ويظل هناك سؤالٌ قديمٌ يتعلق بأهمية الحاجة إلى الصديق طرحه أرسطو على النحو التالي: في أي الحالين يكون المرء أحوج إلى الأصدقاء؟ في الرخاء والسعادة، أم في الشدة والشقاء؟ وأجاب قائلاً: إن المرء يحتاج إلى الأصدقاء في حالتي السعادة والشقاء؛ فعند الشقاء يحتاج إلى أصدقائه ليقدموا له العون، أما عند السعادة فتنتعش حاجة الشخص إلى من يشاركه سعادته. ويبدو أن الإمام علي (ع) قد خالف أرسطو حين أشار إلى أهمية الصديق وقت الشدة في قوله: ما أكثر الأصدقاء حين تعدهم... لكنهم في النائبات قليلٌ. والعرب تقول «الصديق وقت الضيق». وعندما ينساب حبر القلم يداعب نسائم المشاعر ويستذكر أن هناك زملاء دراسة وزملاء عمل قد تحولوا إلى أصدقاء أوفياء، وهناك أصدقاء طفولة تاج الرأس ويسكنون الفؤاد يقول لقمان «رب أخ لك لم تلده أمك»، وينطبق عليهم قول الشاعر أبو العتاهية :
إن أخاك الصدق من كان معكْ
ومن يضرُ نفسه لينفعكْ ومن إذا ريب
الزمانٍ صدعكْ شتّـت فيك شمله ليجمعكْ
أما ضياء الدين السهروردي (ت 563 هـ) فيشير في كتابه «آداب المريدين» إلى أن الحاجة إلى الأصدقاء على ثلاثة أصناف: فمنهم صنف كالغذاء لا يستغنى عنه، وصنف كالدواء نحتاج إليه أحياناً، وصنف كالداء ننفر منه في كل حين. أما أبو حيان التوحيدي في كتابه «الصداقة والصديق»، الذي خصصه بالكامل لموضوع الصداقة فهو يفرق بين الصداقة الطيبة وصداقة السوء، ويذكر أن المودة بين الصالحين بطيء انقطاعها سريع اتصالها كآنية الذهب بطيئة الإنكسار هينة الإعادة. بينما المودة بين الأشرار سريع انقطاعها بعيد اتصالها كآنية الفخار التي يكسرها أدنى شيء ولا جبر لها. وفي فصل عن المؤاخاة في كتاب «أدب الدنيا والدين» لأبي حسن الماوردي (ت 450 هـ) نجده يقسم الإخوان وفقاً للحاجة والعون، إلى أربعة أقسام: فمنهم من يعين ويستعين، ومن لا يعين ولا يستعين، ومن يستعين ولا يعين، ومن يعين ولا يستعين. أما ابن مسكويه (ت 421 هـ) وهو من أشد الكتاب تأثراً بآراء أرسطو في الصداقة، فإنه يذهب إلى أن الناس يسعون في حياتهم لنيل واحدة أو أكثر من بين ثلاث حاجات، هي اللذة أو المنفعة أو الفضيلة، وهو تصنيف سبقه أرسطو إلى إقراره، فصداقة الفضيلة تنعقد سريعاً وتنحل بطيئاً؛ لأن الخير باق بين الناس، وهي صداقة الأخيار. أما صداقة المنفعة فتنعقد بطيئاً وتنحل سريعاً بانقضاء المصلحة كصداقة الأغنياء والتجار. أما صداقة اللذة فتنعقد سريعاً وتنحل سريعاً؛ لأن اللذة متغيرة وهي أكثر شيوعاً بين الفتيان.
إلا أن جبران خليل جبران يقدم وصفاً لطيفاً في حاجة الصديق بقوله: «إن صديقك هو كفاية حاجاتك. هو حقلك الذي تزرعه بالمحبة وتحصده بالشكر. هو مائدتك وموقدك لأنك تأتي إليه جائعاً وتسعى وراءه مستدفئاً».
نود في هذه المحطة الفكرية لفت الانتباه إلى أن تراثنا غني بالأفكار والتأملات المتعلقة بموضوع الصداقة، لكنها حتماً لا تغني عن قرع الجرس للتنبيه بضرورة إجراء الدراسات النفسية الميدانية لواقع شبابنا في الوطن العربي. تلك الدراسات القائمة على المنهج العلمي لدعم مهارات الصداقة وتحسين الكفاءة الاجتماعية وعدم الاكتفاء بنتائج الدراسات الأجنبية. فالفروق الثقافية شاسعة بين البيئات الغربية والبيئة العربية في كثير من الظروف والقيم والمعتقدات؛ وعليه يجب البحث عن الأساليب التي تعمل على تحسين الظروف الاجتماعية المحيطة بالشباب من خلال إشراك أفراد الأسرة والأقران والمعلمين في إشباع الحاجة إلى التواصل الاجتماعي السليم، وتبني عمليات تدريب حديثة لصقل المهارات الصداقية... بشرط أن نتذكر دائما الحكمة اليونانية «أنت تملك أصدقاء... إذن أنت غني».).
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 3626 - الجمعة 10 أغسطس 2012م الموافق 22 رمضان 1433هـ
لا صديق خير من صديق غدار
كان لي اصدقاء جمعني معهم الماء و الملح..
ولكنهم تسببوا في فصلي من العمل..وعندما هدمت مساجدي وقتلوا بني جلدتي وعذبوا بالسجون واعتدي على عرضي وسرق مالي..
ضحكوا وشمتوا..
آه من موقفهم يوم الحساب..