يروي المفكر المصري جلال أمين في مذكراته أنه شاهد قبل سنوات فيلماً بولندياً لا يزيد طوله على عشر دقائق، تبدأ قصته البسيطة بمنظر بحر واسع يخرج منه رجلان يرتديان ملابسهما الكاملة ويحملان معاً، كل منهما في طرف دولاباً عتيقاً ضخماً يتكون من ثلاثة أضلاف، وعلى ضلفتيه الوسطى مرآة كبيرة. يسير الرجلان في اتجاه الشاطئ وهما يحملان هذا الدولاب بمشقة كبيرة، حتى يصلا إلى البر في حالة إعياء شديد، ثم يبدآن في التجول في أنحاء المدينة وهما لايزالان يحملان الدولاب، فإذا أرادا ركوب الحافلة حاولا صعود السلم بالدولاب وسط زحام الركاب وصيحات الاحتجاج، وإذا أصابهما الجوع وأرادا دخول مطعم حاولا دخول المطعم بالدولاب فيطردهما صاحب المكان.
لا يحتوي الفيلم إلا على تصوير محاولاتهما المستميتة في الاستمرار في الحياة وهما يحملان دولابهما الثقيل إلى أن ينتهي بهما الأمر بالعودة من حيث أتيا، فيبلغان الشاطئ الذي ظهر في أول الفيلم ثم يغيبان شيئاً فشيئاً في البحر حيث تغمرهما المياه، وهما لايزالان يحملان الدولاب.
يعكس الفيلم حكاية الإنسان مسيراً ومصيراً، فأحياناً يعيش الإنسان أو المجتمع تحت وطأة المشاكل الاجتماعية والسياسية ردحاً من الزمن يتخبط في الأزمات دون أن يفطن إلى طريقة ناجعة لحلها، ولكل منا دولابه الخاص والثقيل، يأتي معه إلى الدنيا ويقضي حياته حاملاً إياه دون أن تكون لديه أية فرصة للتخلص منه، ثم يموت وهو يحمله. قد يكون هذا الدولاب غير مرئي وقد نقضي حياتنا متظاهرين بعدم وجوده، أو محاولين إخفاءه، ولكنه قدر كل منا المحتوم الذي يحكم تصرفاتنا ومشاعرنا واختياراتنا أو ما نظن أنه اختياراتنا.
البحرين بلد صغير بمشاكل كبيرة، مشكلته الاساسية أنه غير قادر على بناء استقراره السياسي والأمني والاجتماعي بفعل سوء التعاطي الرسمي مع مطالب القوى السياسية وأشواق مكوّن اجتماعي مهم ومؤثر، وعدم الاعتراف بالمشاكل الحقيقية التي تتحول غداة كل عقد من الزمن إلى انتفاضة شعبية تطالب بتصحيح الأوضاع وتعزيز المشاركة الشعبية في التشريع والمحاسبة وصنع القرار.
وحيال هذه المشاكل وتراكمها تتنوع المطالبات السياسية بإحداث إصلاح حقيقي دائماً، فتُوَاجه تارةً بالتشويه عبر إلحاقها بجهات خارجية: مصر الناصرية في الخمسينات، موسكو الشيوعية في الستينات والسبعينات، وإيران منذ الثمانينات عندما نزعت طهران تاجها الملكي وارتدت الجبة والعمامة الإسلامية وإلى الآن!
أو تواجه هذه المطالب بالـ «الانكار» الذي يشابه إنكار صاحبينا في قصة الدولاب والثلاثة أضلاف، الذي أعاق حركتهم في الحياة ومنعهم من التمتع بروعة العيش دون منغصات، والإنكار بالطبع استراتيجية مغشوشة وواهمة أجلها قصير وفاعليتها محدودة، إذ سرعان ما تسفر الحقيقة بوجهها وترغم الآخرين على الاعتراف بها.
والحال أنه لا تشويه حركة المطالبة بربطها بالخارج تساعد على الحل، ولا إنكار المشاكل السياسية تغيّر من الواقع الفاسد، ويجب الإذعان بأن مشاكل البحرين من داخلها وليست من خارجها، ويجب أن تكون الحلول أيضاً بحرينية صرفة، وهذا لا يمنع من الاستفادة من التجارب المماثلة في إعادة ترميم ما دمرته الأحداث على كل المستويات الاجتماعية والسياسية والأمنية.
قبل أيام دعا الناشط الحقوقي عبدالله الدرازي إلى الاستفادة من التجربة الايرلندية في المصالحة الوطنية كحلٍّ سياسي للأزمة التي تمر بها البلاد في الوقت الحالي؛ وقال الدرازي إن الصراع الذي شهدته ايرلندا الشمالية استمر لنحو 30 عاماً، ونتج عنه 3500 قتيل، وأكثر من 40 ألف جريح، وهو رقم مروع بالطبع غير أنه ما إن بدأت المفاوضات وتم التوقيع في العام 1998 على اتفاقية «الجمعة العظيمة»، وصلت الحكومتان الايرلندية والبريطانية والحركة السياسية في ايرلندا الشمالية إلى قناعة بعدم وجود طرف منتصر، وأنه على الرغم من كل هذه الأعوام التي مرت بها البلاد في أزمة لم يحسم فيها الوضع، لا يوجد أحد «منتصر»، وبدأت ايرلندا الشمالية في مرحلة مصالحة مع الذات وطوت صفحة الماضي.
بالطبع نماذج الصراعات السياسية كثيرة في التاريخ المعاصر، وجميعها تعطي أملاً ووعداً بأن إرادة الخير والسلام تتحقق في نهاية المطاف، فالشعوب والمجتمعات قادرة على تجاوز كل المحن والابتلاءات بإيمانها العميق بقدرتها على التعايش، متناسيةً ألم الأمس القريب، وعيونها تشخص إلى حاضر ومستقبل يستعيد فيه المجتمع كرامة الإنسان وحرمته.
ملفات كثيرة بحاجة إلى تسوية جادة في البلد، وليست بحاجةٍ لـ «هذرة» إعلامية منافقة، أو تطييب خواطر «دبلوماسية» تتستر على الأخطاء، بل تحتاج إلى قرارات سياسية حازمة لتقويم هذه الأخطاء وسد ما أسماه المناضل إبراهيم شريف ذات يوم بـ «الثقب الأسود».
إننا قادرون بالطبع على استعادة صفائنا الإنساني كمجتمع متحضر، متى وجدت البيئة الصالحة لمعالجة كل هذه الملفات «المعمرّة» بدءًا من الاصلاح السياسي، مروراً بالفساد الإداري والمالي، وليس انتهاءً بالتمييز بين المواطنين على أساس مذهبي.
والأوامر التي صدرت «من فوق» وتم على إثرها تثبيت المتطوعين في وزارات وهيئات الدولة في مختلف المواقع في وقت قياسي؛ قادرةٌ على معالجة كل هذا الحصرم المرّ في وقت قياسي أيضاً.
هناك قصة لنحات مشهور مؤداها أنه كان يفرح فرحاً عظيما عندما يصادف كتلة كبيرة من الحجر من النوع الذي يستخدمه في صنع تماثيله، فقد كان هذا النحات بمجرد أن يراها يتصوّر التمثال الذي يمكن أن يستخرجه منها. كان يتصوّر كتلة الحجر وكأنها تحتوي في أحشائها على هذا التمثال الكامن في خياله، وأن كل المطلوب منه هو أن يقتطع بمعوله قطعة صغيرة من الحجر بعد أخرى من هذه الكتلة الكبيرة ويلقي بها جانباً لكي يخرج هذا التمثال الرائع الكامن في جوفها. هذا يعني أن النحات لا يصنع شيئاً في الحقيقة، بل هو فقط يستبعد بعض الأشياء، ولا يضيف شيئاً إلى الأشياء الموجودة بالفعل، بل يستغني عن غير الضروري منها ويبقي فقط ما يستحق البقاء.
فهل سنتعلم من هذا النحات درساً بليغاً، بحيث نكون قادرين على أن ننزع منا ومن مجتمعنا المكتوي بنيران الكراهية والاحتراب الداخلي الزوائد الضارة؟ أتمنى ذلك وأتمنى أن يتحقّق ذلك قريباً جداً بعيداً عن زبد الوعود.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 3622 - الإثنين 06 أغسطس 2012م الموافق 18 رمضان 1433هـ
لاشيء يبقى على حاله مهما فعلوا ؟؟؟؟؟؟؟؟
آن الأوان أن تعي الحكومات أن شعوبها لأتحكم بالعصا لابد أن تدرك حاجة الشعب كيف تريد منه الواجب وتتجاهل حقوقه
الآن المجتمع تغير
والعالم العربي تغربل بالكامل
لابد من تفحيص وقراءة الواقع مثلما هو
الشعب ضحى وقتل وظلم فلا يصمت ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
بعد إيه ؟
المشكلة لا تتعلمون - المشكلة إنكم تنكرون - المشكلة إنك تعيشون دور أمينة رزق .. دعوات للحوار من فبراير 2011 وأنتم تأخذكم العزة بالإثم. حتى مجيد العلوي قال ضيعتم الفرص. لاكان في داعي لا للتجربة الإيرلندية ولا النيجيرية . بس ما يغيتوا . والآن تتباكون على اللبن المسكوب. غني يا وحيد.
لا صلاح الا بالاصلاح
لاصلاح الا بالاصلاح.. اعتقد ان صلاح الوضع مرهون باحداث اصلاحات حقيقية وجوهورية في البلاد تخلصنا من هذا الوضع الاعوج
لا زالت في الأزمة ولن تخرج منها
هناك تكريس للأزمة عن طريق تكريس الاعمال التي أدت الى نشوبها بمعنى آخر ان الاسباب التي ادت الى انفجار الوضع زادت وتيرة تكريسها اضعاف وفي احد اعمدة الاخوة اليوم ما يدلل على ذلك وهي الممارسة العنصرية المقيتة والتي يعتقد البعض جاهلا انها تؤسس لخير لطائفة على حساب اخرى وكما ذكرت في تعليقي انها قنبلة موقوتة سوف تحرق الجميع
ولا اعتقد ان هناك من يستمع للنصح كما تعودنا على الدوام الكل يحذّر ولا آذان تسمع. قولوا ما تشاؤن وسنمارس ما نشاء