استوقفتني مقولة لإيفان إليتش في كتابه الشهير (مجتمع بلا مدارس) عندما قال: «لقد تعلَّمنا معظم ما نعرفه خارج المدرسة، ومعظم ما يتعلّمه التلاميذ يتم دون مساعدة المدرسين، بل ورغم وجودهم في معظم الأحيان، إن الشيء المأساوي حقاً أن معظم الناس يتعلمون دروسهم دون أن يذهبوا إلى المدرسة قط، كل واحد يتعلم خارج المدرسة كيف يعيش. نحن نتعلم كيف نتكلم ونفكر ونحب ونشعر ونلعب ونلعن ونمارس السياسة والعمل دون تدخل المدرّس»!
قد لا يتفاجأ القارئ بإطلاق لقب «زعيم الحركة الفوضوية التربوية» على إليتش؛ نظراً لأفكاره التربوية الجريئة المثيرة للجدل، والمناهضة أساساً للمدارس التقليدية التلقينية التي تقف حجر عثرة أمام قدرات الطلبة وطاقاتهم الإبداعية.
نعم، لربما نشاطره الرأي بأن المدرسة في سبيل ما تغرسه في نفوس التلاميذ من فرض الحضور والتلقين والرعاية إنما تنسى أغلى مهمّة لها، ألا وهي التعليم المفضي إلى «الإبداع».
فمن أخطر الظواهر التعليمية التي لا زالت تمثّل تحدياً حقيقياً بمدارسنا في الوطن العربي هي «ثقافة الإيداع» التي تعني في أبسط معانيها: اختزال دور التعليم في تلقين الطلبة للمعارف والمعلومات فقط، دون القيام بمهمة تنشئتهم أو تربيتهم عليها.
إن المعلمين والطلبة هم أكثر الناس معرفة بخطورة هذه الثقافة، فتلقين المعلومات المحنطة أو المقولبة لا تنفع إلا لاجتياز الامتحانات ونيل الشهادات العلمية، مما دفع البعض إلى القول بأن مؤسساتنا تعليمية وليست تربوية.
بطبيعة الحال، فإن «ثقافة الإيداع» سياسة تعليمية مدمرة وفاشلة؛ لأن ثقافة «الإيداع» أو «التعليم البنكي Banking Education» كما عبر باولو فريري، إنما يختزل دور المعلم في إيداع المعلومات المعلبة في أدمغة الطلبة، وما على الطلبة سوى استقبال المعلومات بشكل قسري وسلبي؛ ليقوموا باستدعائها متى ما طلب منهم المعلم أو خضعوا لامتحان.
إلى حد الآن، وبرغم كل ما قرأناه أخيراً عن تعميم مقرر حقوق الإنسان والمواطنة على كافة المدارس والكليات بجامعة البحرين اعتباراً من الفصل الدراسي المقبل، وتطوير المناهج بكلية بوليتكنك البحرين بهدف تضمينها مواضيع ذات علاقة بحقوق الإنسان واحترام حرية التعبير ومهارات إبداء الرأي واحترام الرأي الآخر وفنون الحوار والمواطنة والتسامح؛ بناءً على ما ورد في التوصية 1725 الفقرة (أ) من تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، والتي تنص على «وضع برامج تعليمية وتربوية للمراحل الابتدائية والثانوية والجامعية؛ لتشجيع التسامح الديني والسياسي والأشكال الأخرى من التسامح، علاوة على تعزيز حقوق الإنسان وسيادة القانون»، وقيام وزارة التربية والتعليم في يناير/كانون الثاني 2012م بالتوقيع على مذكرة تفاهم مشتركة مع مكتب التربية الدولي في جنيف التابع لمنظمة (اليونسكو)؛ لتقديم التعاون والاستشارات الفنية للوزارة في مجال تطوير وتنفيذ مناهجها التعليمية على مدى السنوات الخمس المقبلة، بحيث تتضمن التعديلات الدستورية والميثاق التربوي ولائحة الانضباط الطلابي والأنظمة الانتخابية وغيرها، وكذلك تطوير مناهج المواد الاجتماعية والتربية للمواطنة والمواد الإنسانية، كل ذلك بدءاً من العام الدراسي المقبل 2012-2013م، فإننا نؤكد في السياق ذاته على أهمية كل ما ذكر، إلا أننا ومن خلال اطلاعنا على تجارب دولية رائدة ومشابهة وجدنا أن مشروعاً كبيراً بحجم «التربية على حقوق الإنسان»، يكون بلا جدوى وفعالية إذا اختزلناه في تعليم الطلبة مجموعة من القوائم الخاصة بحقوق الإنسان، ليطلب منهم فقط معرفتها وحفظها عن ظهر قلب تماماً كما نلزمهم بحفظ جدول الضرب في مادة الرياضيات!
المسألة ليست كذلك، فالمطلوب من المؤسسات التعليمية ـ منعاً لحدوث أي تصادم أو صراع قيمي في المستقبل ـ أن ترتقي بدورها وبنفسها لتنخرط كمؤسسة تربوية واجتماعية فاعلة إلى جانب المؤسسات التربوية الموازية الأخرى، مثل: الشارع والأسرة ووسائل الإعلام والأندية وما شابه ذلك، في تنفيذ هذا المشروع المجتمعي الطموح الذي لا يعمل فقط على تعليم الإنسان، بل لأنسنة هذا الإنسان فعلاً، بجعله يعرف حقوقه أولاً، ويعمل على الدفاع عنها بمثل دفاعه عن حقوق غيره، وبالتالي يصبح دور المدرسة إيجابياً؛ فالعبرة ليست في المفاهيم بقدر ما هي في الأفعال والممارسات الطلابية.
دعونا نقولها وبكل وضوح، إذا كان المطلوب تدريس الطلبة كتاباً أو مقرراً دراسياً بعنوان «التربية على حقوق الإنسان»، بحيث يحفظ الطالب/ة مجموعة مفاهيم ومواد حقوقية ومن ثم يسترجعها يوم الامتحان تماماً كسائر المواد الأخرى فإننا بذلك نكون قد كررنا الأخطاء ذاتها في العملية التربوية.
لا يساورنا أدنى شك فيما تقدمه بيوت الخبرة العالمية من دعم واستشارات، ولكن في المقابل علينا أن لا نغفل دور مؤسسات المجتمع المدني خصوصاً الحقوقية منها، في تحديد توجيهات ومضامين ومستلزمات تعليم حقوق الإنسان والتربية عليها.
إن العملية شاقة وطويلة، ولكن ثمة اشتراطات لنجاح مشروع «التربية على حقوق الإنسان»، وعلى رأسها الاهتمام بالمعلمين والمربين الأفاضل واحترامهم والعمل على تحسين ظروفهم المادية واحتياجاتهم المهنية والتدريبية، وخلق الحوافز والدوافع على التعليم والتعلم، وتقليص عدد الطلبة في الفصل الواحد إلى حدود 20 أو 24 طالباً /ةً فقط، وخلق الحوافز والدوافع على التعليم والتعلم، وإدراج مفاهيم حقوق الإنسان ضمن عملية التقويم التربوي، وإلزام الإدارات المدرسية بتأسيس برلمانات مدرسية منتخبة وهيئات تمثيلية بالاقتراع العام والتصويت الحر المباشر من قبل الطلبة؛ لكي يتمرسوا على آداب الحوار ومعرفة حقوقهم من خلال تمثُّلها وممارستها في الفضاء المدرسي. ترى منظمة اليونسكو «بأنه يجب أولاً وقبل كل شيء اعتبار حقوق الإنسان موضوعاً عاماً يهمّ جميع المربين»، وبحسب تقريرها النهائي الوارد في كتاب: «التعلم ... ذلك الكنز المكنون»، فإن «التعلّم للتطبيق» يعدُّ ركناً من الأركان الأربعة التي ينبغي أن تقوم عليها التربية في القرن الحادي والعشرين، فلا فائدة من العلم دون أن ينفذ أو تسري نتائجه لتحسين نوعية الحياة على الأرض.
ما نصبو إليه، هو الانتقال من ثقافة الإيداع إلى ثقافة الإبداع، بحيث لا يقتصر دور مدارسنا مستقبلاً ـ عندما نقرر تنفيذ هذا المشروع ـ على تعليم هذه الحقوق، بل وتربيتهم على ثقافتها وممارستها في حياتهم اليومية.
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3620 - السبت 04 أغسطس 2012م الموافق 16 رمضان 1433هـ
لا يفقهون
انوه إلى أن حقوق الأنسان التي تشيرون أليها دائماً ما تكون متوافقة مع الفكر الغربي التحديثي وهو أمر لا ضير فيه إذا لم يخالف القواعد الشرعية لكن لماذا لا تستدلون بعدالة القرآن وأهل البيت عليهم السلام فهل تشمئز نفوسكم منهم ام لا يليق ذكرهم والإشادة بهم انا اعلم ان التعليق والنقد لن يخرج بنتيجة ولكن وضعته حتى يراه القراء ويفقهون ان ما قاله دينهم اعظم مما قاله الغرب
عزيزي الكاتب الموقر
لدينا دستور قُرآني مُكمل و منهج و مدرسة إسلامية ذات مُواصفات إنسانية قياسية ...
بيد أن العلة تكمن في الحيثيات التطبيقية لذلك.