العدد 3619 - الجمعة 03 أغسطس 2012م الموافق 15 رمضان 1433هـ

القناعة

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

ذهب سقراط ذات مرة إلى السوق وتأمل كثافة السلع المعروضة فهتفَ وسط تلامذته قائلاً: «ألا ما أكثر الأشياء التي لا أحتاج إليها»!

لم يقل ما أكثر الأشياء التي لا أملكها! وكأن القناعة ملكة نفسية توجب الاكتفاء بقدر الحاجة والضرورة من المال من دون سعي وتعب في طلب الزائد عنه. وهي صفةٌ فاضلةٌ يتوقف عليها اكتساب العديد من الفضائل. يقول الإمام علي (ع): «ثمرة القناعة الراحة وثمرة التواضع المحبة».

في تقديري هناك خلط اجتماعي في مسألة القناعة وكأنها مسألة نسبية أو وقتية (أي ليست مطلقة)، ولعلها تتقاطع مع الطموح ولكنها ليست ضده بل هي في النسق الصحيح أفضل منه. فالقناعة تريحك لكنها لا تغنيك. والقناعة قد تسعدك لكنها لا تصنع منك إنساناً ناجحاً لأن هناك فرقاً بين الإنسان السعيد والإنسان الناجح!

لماذا الحديث عن القناعة في هذه المرحلة إذاً؟

نحن نعيش في عالمٍ استثنائي متخمٍ بنزعة التملك المادية. هذه النزعة التي تجتاح العالم والمجتمعات وهي - على ما أظن - تقدم مسكنات ضعيفة لقلق وأزمة الإنسان المعاصر، والتي يزول تأثيرها كلما زاد استعمالها.

إن الإنسان السلبي المتعطش للتملك لا العطاء هو أرخص ما نملك: لأنه - بلغة الاقتصاد - يقع في خانة «الخسائر» لا «الأصول». وقد قيل إن من يعتقد أن المال يفعل كل شيء فإنه يفعل كل شيء من أجل المال! هنا نؤكد على قيمة العطاء وقيمة العلم. ولعلنا جميعاً بحاجة إلى أقوال وحكم ونماذج سلوكية نتذكرها. ولا مانع من وضع بعض العبارات أمام أعيننا لكي نخفف من تأثير التوجه المادي (الرأسمالية المفروضة علينا) ولكي تنغرس تلك القناعات ونجعلها تستقر في نفوسنا وفي الجانب اللاوعي من عقولنا. ومن بين تلك العبارات الجميلة التي كنت وماأزال أشتهي أن تعيها عقولنا قبل أن تعلق في مكاتبنا ومصانعنا ومدارسنا وبيوتنا، حكمة الإمام علي: «أقل الناس قيمة أقلهم علماً»، فليس هناك حدود للاستزادة من العلم، لكن الذي يؤرق هو ذلك الإفراز المصاحب لمشروع العولمة وآليات السوق الحرة وعلاقته بمنظومة القيم الاجتماعية بحيث أخذت تتآكل تدريجياً قيم راسخة في مجتمعنا كحب العلم والمعرفة والانتماء وقيم التحصيل والإنتاج والقناعة والتفوق العلمي وفعل الخير، وتبدلت عوضاً عنها قيم حب الظهور والكسب السريع والرغبة الجامحة في الاقتناء بحيث ترسم في خيال الناس أن امتلاك المال هو المفتاح السحري لتحقيق السعادة. يقول نورمان دوجلاس: «تستطيع أن تتعرف على مبادئ وقيم أي أمة بمشاهدة إعلاناتها».

هذه السطور تختزن التحذير والتنبيه، وكذلك الخوف من أن يصبح الثراء منقبةً يمكن الحصول عليها من خلال قفزة في ظلام المشروعات الاقتصادية فاحشة الاستغلال. إنه الخوف من حالة الهرولة في مهرجانات التسوق معَ القطيع، حيثُ يدق ناقوس الكلمة المأثورة «كن في الناس ولا تكن معَ الناس». وإذا شئنا الإفصاح قلنا إنه التحفظ في أن يكون الثراء فضيلةً ومنقبةً ينافس فضيلة طلب العلم والأمانة والدفاع عن الوطن.

القناعة إذاً محمودة في بعدها المادي. يقول سيد الخلق الرسول الأعظم (ص): «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال فلينظر إلى من هو أسفل منه، فذلك أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم». والخلط يأتي عندما نضع القناعة مقابل الطموح، يقول المتنبي:

إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ

فلا تقنع بما دون النجومِ

ويقول أبوالقاسم الشابي:

شبابٌ خنّعٌ لا خير فيهم

وبورك في الشباب الطامحينا

دعونا في الختام ننحاز للقناعة بذكر موقفين معاصرين جديرين بالتأمل:

ينقل أن أحد الألمان بعد أن ربح العام 1969 مبلغ نصف مليون مارك ألماني، دخل مندوب الشركة إلى منزله ليسلمه المبلغ، فرفض الرجل استلامه. وأمام دهشة مندوب الشركة قال الرجل: إنني الآن في السابعة والستين من عمري وأعيش حياةً هادئةً، وعندي ما يكفيني وحصولي على هذا المبلغ سيسبب لي التعاسة والقلق في شيخوختي»!

وهناك معلمةٌ في إحدى المدارس الأميركية رفضت استلام راتبها الشهري لسنوات طويلة حتى بلغ المتجمد لها أكثر من 100 ألف دولار، فاجتمع مجلس الإدارة وأحضروا المعلمة لمناقشتها في الأمر، فقالت: إنني قانعة بمعاش بسيط ورثته عن أبي، وإنني قد تعلمت في هذه المدرسة وأحببتها. وأنا الآن أردّ الدين الذي طوّقت به عنقي، وإنني أتبرع بكامل المبلغ لهذه المدرسة التي علمتني»!.

العطاء لا حدود له، ويشمل كل المخلوقات البشرية بلا تصنيف أو تحيز أو تمييز، بل ويشمل كل الكائنات. يقول الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز: «انثروا القمح في رؤوس الجبال حتى لا يقولوا: جاع طيرٌ في بلاد المسلمين»! وسؤالي للقارئ العزيز: هل هناك دروسٌ مستفادةٌ من هذه المواقف وأمثالها؟

نعم! القناعة ترسم الطريق إلى السعادة باعتبارها الشراع أو البوصلة في بحر الحياة المسكون بالرغبات المضطربة. فالسعادة كما الزهور تنتعش في الحدائق، فاجعل عقلك أرضاً خصبة مشبعة بالقناعة والعدل والعطاء والتفاؤل.

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3619 - الجمعة 03 أغسطس 2012م الموافق 15 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:51 م

      محرقية

      إن الإنسان السلبي المتعطش للتملك لا العطاء هو أرخص ما نملك... وهذا الموجود عندنا يريدون تملك الانسان نفسه

    • زائر 2 | 7:24 ص

      مقال جميل

      مقال جميل ومفيد استاذ منصور.. شكرا

    • زائر 1 | 4:31 ص

      روعة

      هذا فقط ما نحتاج .

اقرأ ايضاً