في المؤتمر الإقليمي عن «دور سلطات العدالة في تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد»، قُدّمت أوراق عن تجارب المغرب وماليزيا والبرازيل، ورؤية منظمة الشفافية الدولية.
والحقيقة أن الورقة المغربية موضوعيةٌ في تشخيصها لنظرة الجمهور لسلطات العدالة بما في ذلك القضاء والنيابة العامة والهيئات الوطنية للتحقيق حيث دلت على أن ثقة المواطن المغربي بها ضعيفة جداً، ولهذا أمر الملك محمد السادس بتشكيل هيئة للحوار الوطني لإصلاح القضاء، يشترك فيها الأطراف المعنية من القضاة والمحامين والقانونيين، وممثلي المجتمع المدني، لتدارس إصلاح القضاء بحيث يستعيد ثقة الشعب فيه، وبحيث يتم تعديل القوانين المنظمة له، وإصلاح المؤسسات وإعادة تأهيل القضاة والنيابة العامة، والتعيين استناداً إلى الكفاءة والنزاهة.
تجربة البرازيل وماليزيا
الخبير لدى مكتب المفتش الفيدرالي العام أوتافيو كاسترو، عرض للتجربة البرازيلية في إصلاح السلطات القضائية العامة، وخصوصاً المناط بها مكافحة الفساد والمحسوبية. والتي تتدرج من الإدارات المحلية، فالولايات، فالفيدرالية، حيث إن البرازيل دولة فيدرالية يسكنها ما يقارب 200 مليون، وهي خامس بلدان العالم مساحةً. وقد ذكر كاسترو أن لكل إدارة وولاية، والحكومة الفيدرالية، موقع على الشبكة العنكبوتية تتدفق منه المعلومات بما في ذلك المناقصات، والمشتريات والمبيعات والذمة المالية للمسئولين ومن حق المواطن الحصول على المعلومات العمومية دون تأخير. هذ أحد عوامل تقدم البرازيل السريع، من بلدٍ متخلفٍ إلى أن تكون من ضمن الدول العشر الأغنى في العالم.
من هيئة مكافحة الفساد في ماليزيا، عرض نور هشام نور الدين لتجربتها في مكافحة الفساد، حيث أسهم ذلك في التحول الكبير في ماليزيا، من دولة إسلامية كانت متخلفة وتقليدية، إلى دولة ديمقراطية متطورة. وبدأ ذلك بتأسيس مفوضية لمكافحة الفساد في 1967، بعد سنوات قليلة من الاستقلال. ومن أهم التطورات لمواجهة بيروقراطية المحاكم وطول فترة المقاضاة في قضايا الفساد ما يلي:
- إنهاء قضية الفساد خلال عام فيما كانت تستغرق سابقاً 8 سنوات، وتم تحقيق 75 في المئة.
- تعيين قضاة مختصين لهم خبرة لا تقل عن 5 سنوات، ومدعين عامين يقومون بمهمتين وهما التحقيق والادعاء.
- هيئة قضائية عليا تشرف على عمل القضاة وتحاسبهم استناداً إلى ميثاق شرف يوقّعه القضاة وإعلان براءة ذمة مالية.
بالطبع لم يكن ممكناً لماليزيا أن تتقدّم في مكافحة الفساد لولا نظامها الديمقراطي واستقلال القضاء الفعلي في دولة تستند إلى استقلالية السلطات وتعاونها. ويعرف القراء تجربة نائب رئيس الوزراء أنور إبراهيم في ظل رئيس الوزراء الأسطورة مهاتير محمد، على رغم سطوة مهاتير، وإدانة أنور إبراهيم بتهمة الفساد الأخلاقي والحكم عليه بالسجن، إلا أن القضاء الماليزي برّأ أنور إبراهيم، وهاهو يقود المعارضة الماليزية فيما اعتزل مهاتير الحكم في أوج قوته، دون أن يتسبّب ذلك في فوضى في ماليزيا.
تجارب أخرى مهمة
في سياق استعراض التجارب الوطنية والدولية المتعلقة بمكافحة الفساد والتعاون الدولي، عرض عدد من الخبراء تجارب بلدانهم والتجارب العالمية.
فمن المغرب، عرض عبدالسلام أبودرار، رئيس الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة (المغربية) ورئيس الشبكة العربية، تجربة المغرب في إطار مسيرة الإصلاح الشامل التي يمر بها المغرب. ومن ضمن ذلك توسيع مهام الهيئة للوقاية من الرشوة والنزاهة ومكافحة الفساد. وتشكيلها لتمثل القضاة والمحامين والخبراء والمجتمع المدني، وتوسيع صلاحياتها لتشمل التحري والتحقيق والإحالة إلى القضاء. وانطلاقاً من اقتناع المغرب باختلالات السلطة القضائية، فقد تقرّر فتح حوار تشارك فيه مختلف الأطراف المعنية من أحزاب ونقابات وقضاة ومحامين ومجتمع مدني لإصلاح السلطة القضائية، ورفع توصياتها إلى الملك والحكومة والسلطة التشريعية لاتخاذ ما يلزم بشأنها.
من ناحيته، أكد عضو الهيئة المركزية علي الرام «إننا في الهيئة اعترفنا أن القضاء ليس سلطة مستقلة فعلاً، ولذلك اقترحنا إدخال تعديلات دستورية لضمان ذلك، وهو ما تم فعلاً في دستور 2011، كما أننا لا نخجل من الاعتراف بالفساد في الدولة وشعارنا الحقيقة كما هي». وبالنسبة للنيابة العامة، ومن أجل ضمان استقلاليتها فقد تقرر ألا تتلقى النيابة إلا التعليمات المكتوبة، كما أوصت الهيئة بنقل تبعية النيابة العامة من وزير العدل إلى السلطة القضائية. واعترف علي الرام بأن المغرب يفتقر إلى القضاء المتخصّص حيث هناك أقسام للجرائم المالية في محاكم الاستئناف فقط. وأكد أن الثقة بالقضاء مرتبطة بالممارسة وهذا ينطبق على تعامل القضاء مع قضايا الفساد، حيث الثقة بالقضاء ضعيفةٌ جداً. وقد أثارت كلمته ردود فعل عنيفة لصراحته وموضوعيته، لكنه أصرّ على موقفه المبدئي. والحقيقة أن من بين عروض الدول العربية عرضي المغرب وتونس، وهما الوحيدان ذوا مصداقية.
من تونس عرض عضو لجنة التفاوض بشأن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد محي الدين توق، أبرز الاختلالات في تعاطي الدول العربية مع الاتفاقية، وهي أن التشريعات مهمة لكن الأهم هو التنفيذ، أو التنفيذ الانتقاني للقوانين. وإن معظم الدول العربية ركّزت على مكافحة الفساد في القطاع العام وتركت القطاع الخاص، وغياب التشريعات التي تحمي المبلغين وضحايا الفساد، إضافة إلى تحوّل بلدان عربية إلى ملاذ لغسيل الأموال.
واستعرض الوزير تأثيرات الربيع العربي، وانتصار الثورة التونسية على الجهاز القضائي، فذكر أنه تمت إقالة العديد من القضاة والنواب العموميين الفاسدين، وفتحت ملفات الفساد ومحاكمة الفاسدين بدءاً بالرئيس السابق والعديد من قيادات الدولة السابقة والحزب الحاكم، كما عرض إلى جهود تونس في استرداد الأموال المنهوبة من كبار المسئولين، وعرض لقمة دوفيل في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، حيث تعهدت الدول الـ 20 الكبرى بالتعاون في استرداد الأموال المنهوبة من دول الربيع العربي الناجحة، لكنه اشتكى من عدم تعاون أي من الدول العربية باستثناء لبنان، كما اشتكى من فتور معظم الدول الغربية، في استرداد الأموال المنهوبة.
أما القاضي فيصل عجينة المكلف لدى وزارة العدل بمتابعة الأموال المنهوبة من تونس، فقد استفاض في شرح وقائع الفساد المالي والسياسي والإداري في العهد الماضي. وركّز على الآليات الأممية لتتبع ومصادرة واستعادة الأموال المنهوبة وملاحقة الفاسدين. وأشاد بتعاون كندا وسويسرا ولبنان في هذا الشأن، مع الأمل بتعاون فرنسا الجديدة، وفي الوقت ذاته اعترف بعدم تعاون الدول العربية الأخرى في جهود استرداد الأموال المنهوبة، ودعا إلى تعاون دول الربيع العربي الناجحة (مصر وتونس وليبيا واليمن) في هذا الصدد، كما دعا إلى دعم المنظمات المالية الدولية مثل البنك الدولي لهذه الدول. وأشار إلى المحاولات المبذولة لمكافحة الفساد في مصر مثلاً، بما تعكسه من تردد وارتباك، وخصوصاً ما يتعلق بالأموال العامة والفساد. ومن أوجه ذلك استمرار هروب مسئولين كبار متورطين في قضايا خطيرة لفساد مالي وسياسي وإداري. وقد اعترف مندوب مصر أن هناك محاكمات لبعض رموز الفساد ولكن ليس بالحجم المطلوب. وبالنسبة للتعاون الدولي في ملاحقة الفاسدين واسترداد الأموال أقرّ بعدم كفاية الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد لأنها لا تلزم بآلية معينة، وإنما آلياتها اختيارية. كما اشتكى من عدم تعاون غالبية الدول بما فيها الدول العربية مع جهود مصر في استرداد الأموال المنهوبة.
من اليمن كان عرض الوفد الرسمي برئاسة وزير العدل القاضي مرشد علي العرشاني، وهو رئيس المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، حيث كان مخيباً للآمال، فقد تركز عرض العرشاني على المواعظ الأخلاقية في التنفير من الفساد، وخطورته على المجتمع والدولة، وعاقبة مرتكبيه. وتحدث عضو آخر بإسهاب عن الجهود الكبيرة لمختلف أجهزة الدولة، رئاسة وحكومة ومجلس نواب وقضاء ونيابة عامة، في مكافحة الفساد وكأنه يتحدّث عن كوكب آخر، وليس عن نظام فاسد برئيس فاسد. كما تحدّث وكأن لم تحدث ثورة في اليمن، وأحد أسبابها الفساد المستشري، وأهم أهدافها استئصال الفساد، لكن ما صحّح الوضع مداخلات أحد النواب ونشطاء المجتمع المدني.
تناقضات الدول العربية
وتحدث مندوبو بلدان عربية أخرى، ومنهم الجزائر والسعودية وليبيا ولبنان والأردن والسودان وفلسطين والعراق، عن تجارب بلدانهم في تنفيذ الاتفاقية، ومكافحة الفساد بشكل عام. والحقيقة أن الوحيد الذي كان موضوعياً في عرضه هو النائب غسان مخيبر، الذي اعترف بواقع الفساد المستشري وتواضع الجهود الرسمية والأهلية في مكافحته. والملاحظ في عرض ممثلي الدول العربية هو الإقرار بوجود الفساد وخطورته، ولكن دون تحديد مصادر الفساد في الدولة والقطاع الخاص، كذلك الإفراط في الإشادة بالجهود الرسمية من الأجهزة التنفيذية والقضائية والتشريعية في مكافحة الفساد دون تفسير تفاقم الفساد وتوسعه. كما كان هناك إصرار على أن القضاء مستقل ونزيه فعلاً، وكذلك الأمر بالنسبة للنيابة العامة كونها جزءاً من القضاء، دون تفسير إفلات كبار الفاسدين من المحاسبة، والأحكام الظالمة للقضاء ضد المعارضين والحقوقيين، وحماية الحكام والمسئولين الفاسدين والمستبدين على امتداد عقود، والشرح يطول.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 3616 - الثلثاء 31 يوليو 2012م الموافق 12 رمضان 1433هـ