كأنَّ العالم الافتراضي بديل للعالم الحقيقي من حولنا. العالم المحسوس والملموس. كأن فشل العالم الثاني بهيمنته ونظم وقيم وأعراف من دون الدخول في أحقيتها أو جدواها أتاح للعالم الافتراضي أن يكون بديلاً حقيقياً على رغم افتراضيته.
ثم إنه لم يعد ذلك العالم افتراضياً بنسبة الحراك والتأثير وما يترتّب عليهما. بات عالماً قائماً بذاته ومعترفاً به. حتى الذين أغلقوا أفق العالم في حدودهم الجغرافية أو من أوعز بذلك ودفعوا الناس دفعاً إلى العالم الافتراضي باتوا من سكّان ذلك العالم وفاعلين فيه؛ بغضّ النظر عن حجم وحقيقة واقتناع بعضهم بتلك الفاعلية.
قبل «تويتر» و «فيسبوك» باعتبارهما الأهم بين مواقع التواصل الاجتماعي، كانت المنتديات بداية تأسيس ذلك العالم الافتراضي. عالم يضج بالاحتراب حيناً والرومانسية حيناً آخر و «ديوانيات» مفتوحة في تنوع موضوعاتها.
في الموقعين المذكورين «تويتر» و «فيسبوك» حدث انتظام أُسّست له قواعد متقدمة من حيث الدخول إليهما وحماية الخصوصية وخيارات الرفض والقبول؛ ومع ذلك لم يسلم الموقعان من اختراقات يتصدّى لها المتلصصون بشكل فردي حيناً ومنتسبو وتابعو وخَفَر الأنظمة حيناً آخر.
في الموقعين أسجّل انطباعات تتعلق بتحجيم الثرثرة في موقع وإتاحته في موقع آخر. والثرثرة ليست بالضرورة كلاماً عديم القيمة في إجماله ولكن الغالب منه كذلك.
في «تويتر» وبالحصر الذي يحدده (140 كلمة) لا يملك أي منا إلا أن يكون ضاغطاً ومُبتسراً لما يريد قوله وإيصاله وأحياناً مشاغبته.
كأنه تمرين على ترك الثرثرة جانباً والدخول في لب الموضوع والفكرة. كأنه بذلك يؤسس لسكان افتراضيين حكماء يركنون وينحازون إلى «خير الكلام ما قل ودل» وليس بالضرورة أن يكون قليل الكلام دالاً وفيه شيء من الخير.
كأنه يؤسس لحكمة في شواهد كثيرة وتغريدات لا تتعدّى بضع كلمات وتختزل في الوقت نفسه كلاماً كثيراً تحتويه وتضمّه.
مع مرور الوقت يؤسس موقع تويتر لغة قادرة على النأي بنفسها عن الثرثرة حين تتوجّه بنَفَس ذي قيمة فيما يُطرح بعيداً عن ضغط الفراغ الذي يعانيه أي واحد منا.
«التويتريون» أكثر قدرة على لجم ثرثرتهم في توجههم بمسئولية وتأسيس وقدرة وذكاء ومعرفة بخبايا اللغة وأسرارها. أتاح لهم الشرط (140) أن يدخلوا في الدرْبة تلك والمران الصعب من دون أن يكونوا متآلفين مع ذلك الشرط بداية الأمر.
في «تويتر» حجم التنفيس أكثر منه في «فيسبوك»على رغم خاصية الأخير من حيث عدم إتاحته فرصة التطفل والدخول ضيفاً من دون دعوة. في «تويتر» تشعر بأنه بيت من دون أبواب ونوافذ يمكنك الدخول من خلال أي فرْجة أو كوّة. تفرض نفسك ضيفاً أو صديقاً أو حتى جاسوساً على ما تكتبه وتغرد به من دون أن يُؤذن لك.
في «فيسبوك» ثمة شرطي هو بمثابة زر/ خيار يتيح لك قبول ذلك الضيف أو الصديق أو الجاسوس أو تجاهله وإذا أحببت يمكنك وضعه في الحظر والحجز بمعنى أن تمارس عليه عسكرة من نوع آخر.
في «تويتر» كل جبهاتك مكشوفة ومتعددة على رغم خاصية الشرط في متر وعدّاد الكلام. أنت تحت مرمى بصر وسمع العالم وخصوصاً بصر وسمع الأنظمة التي لا تحب طبعاً قراءة ما يسيء إليها ولو كانت أصل السوء ومنبعه وإن كان دورها الفعلي على الأرض الإساءة إليك في أكثر من موقع وعلى أكثر من جبهة.
أنا من الذين أشتم الخلل كل يوم. أجد في ذلك متعة ودوراً هو أقل ما يمكنني القيام به في ظل إحكام حصار يطول الحياة في كل تفاصيلها.
يتيح لي «تويتر» أن أكون مُحدّداً ودقيقاً ودخلت في اختبار تحدٍ معه لم أحتجْ معه حتى إلى ربع اشتراطه (140). أتاح لي الموقع ممارسة شتم الخلل والتجاوز المفضوح عبر الصوت والصورة والكلام أيضاً وبتحرز ليس مهووساً أحياناً، وباندفاع أحياناً أخرى. كانت التجربة صعبة بداية الأمر. كنت من سكّان ورعايا «فيسبوك» الافتراضيين. سكّانه ورعاياه من الثرثارين في أكثر الشواهد وليس جميعها.
يمكنك الوقوف على الثرثرة في «فيسبوك» ولو في بضع كلمات دون التي يشترطها «تويتر». الشرط هو الآخر يمكن لأي واحد منا أن يتحايل عليه تطويراً.
يمكن القول إنه يتيح لك الثرثرة والاسترسال بخاصية أنك في مأمن من السُلَط وأذنابها. لكن الأمر ليس مضموناً. يحدث أن يتم استدراجك لإضافة دخيل ومدسوس ومنتفع ومملوك. هنا عليك ألا تكون مهووساً بعدّاد استقطابك لمتابعين. نادراً ما يتحكم أحدنا في ذلك ويعي حقيقة الفخ!
في «فيسبوك» مساحة الثرثرة من دون ضوابط أكثر وضوحاً بحكم خاصية اختيارك لمن يريد أن ينضمّ إلى قائمتك.
أعتقد بأن «تويتر» سيكون أكثر فاعلية في التأثير على حال الثرثرة عربياً وذلك المهم. أعني بالملفت مما يحتويه وذي القيمة والمعنى لا علاقة ولا أهتم كثيراً بعصابات الفزعة ومخربي الانسجام والتواصل في العالم وخصوصاً في عالمنا المليء بجحافل من المرضى والجواسيس وأحياناً المتفرجين.
ربما يعمل «تويتر» على ترشيد شيء من الانفلات والجنون والسَفَه أيضاً ووضعه في طريق «ما قلّ ودلّ»، وإن ظل ترشيداً في حدود صناعة الكلام ولم يحقق الكلام منجزاً يمكن الاعتداد به ليس عربياً فحسب بل على المستوى الإنساني. ما تم إنجازه اليوم ليس صناعة كلام إنه ذهاب في عمق الفعل ومؤدّاه.
على مستوى الأنظمة التي تعاني من خروقات وتجاوزات على مستوى حقوق الإنسان الذي لا حقوق له أصلاً، ضمن باقة كبرى وغير محددة في الممارسة يمثل الموقعان كابوسين بسبب فاعليتهما النسبية في الإطاحة بجزارين وطغاة ولصوص وأنصاف آلهة. ما تبقى في الخريطة العربية من أولئك يحاولون إحكام قبضتهم على «الشاذين» من الرعايا، أولئك الذين لا يترددون لحظة في فضح وكشف ممارساتهم بالصوت والصورة.
أعيد كلاماً مرّ، «تويتر» محاولة للجم الكلام الفائض. لم ينجح بالطبع. ذلك جهد وإمكانات وموهبة تحدّد ذلك اللجم.
يمكنك في «تويتر» أن تشتم الخطأ والخلل بأقل عدد من الكلمات. الحكمة هنا ليس بالضرورة أن تكون حاضرة. ليس بالضرورة أحياناً أن تقول شيئاً في بضع كلمات ولو ادّعيتَ الحكمة أو توهّمتها.
«فيسبوك» محاولة انفلات وتحرر بضمان حماية ليس بالضرورة أن تكون مضمونة. ساحة لثرثرة وأحياناً حكمة وقيمة وإبداع في بضع كلمات من دون شرط يحددها الموقع.
«فيسبوك» وعى كارثة الشرط وترك خيارات مفتوحة. «تويتر» يعي ذلك ولكنه يريد استدراج سكّانه إلى حكمة ولو كانت ساذجة أو لا حكمة فيها أساساً.
في مجتمعاتنا، أتاح الموقعان فرصة للتعبير عن حقيقة الاحتقان بين مكونات لا يراد لها أن تكون منسجمة وهي كانت كذلك قبل أن تجد بعض الأنظمة أن من مصلحتها دق أكثر من إسفين للاستفراد بالتسلّط والنهب. ذلك الاحتقان موجّه ومبعثه منابر غذت أكثر من سعير.
في «تويتر» تكتشف حكمة الدمار والنسف في بضع كلمات أيضاً. إلغاء المكونات، تكفير بعضها وتسفيهه ودعوات صريحة إلى الإبادة وقليل من ذلك يحوي من العقل والرحمة والتعقل والحكمة. وذلك القليل مطلوب وضروري وملحّ.
في «فيسبوك» الأمر لا يختلف كثيراً بحكم المساحة التي يتيحها في الكلام والصورة وروابط متعدّدة.
إنه عالم افتراضي يمكن أن يحسن ويعمل على التمهيد إلى عالم حقيقي ويمكن أن يسهم في الوقت نفسه في تعميق كوارثه ومشكلاته ومعضلاته.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3614 - الأحد 29 يوليو 2012م الموافق 10 رمضان 1433هـ
كل اناء بالذي فيه ينضح ..
إن هذا العالم الافتراضي بالإضافة لما ذكرت قد بين وبحدة حجم التباين الثقافي والاخلاقي في مجتمعنا ، فنرى البون شاسع بين التغريدات العقلانية والمعبرة عن الحب الحقيقي للبحرين وبين تغريدات الشتم والاقصاء ، التغريدات المحبة للبحرين تجدها تستهدف المصلحة العامة وباسلوب منطقي راقي ، اما بعض التغريدات الاخرى تجدها ركيكة الاسلوب والمضمون ولا تستهدف مصلحة الناس وانما يعبر بعضها عن حقد ومرض مزمن وعقد كثيرة ونيران تغلي داخل صاحبها مثل المرجل ولا اعتقد ان هذه التغريدات تخفف من اللهيب المشتعل في بعض الصدور !