يخطئ مَنْ يعتقد، أن أنظمة الحكم «المستبدَّة» تقوم على فرد. الصحيح أنها تقوم على جَوقة ممتدة من الأطراف. للوهلة الأولى، يتراءى للجميع، أن ذلك الفرد هو من يقود النظام السياسي بكل تلابيبه، وبجميع راياته؛ لكن الذي يتكشَّف «عند المنعطفات» هو غير ذلك. هنا بيت القصيد.
نعم، عند المنعطفات والأزمات والقرارات الكبيرة، يتضح مدى فردانية الحكم من عدمه. لنستحضر الديكتاتوريات ونرى. إسبانيا الفرانكوية وإيطاليا الموسولينية، أو حتى الفاشيات التي انتشرت في الشرق خلال عشرينات القرن الماضي، وصولاً إلى المجتمع السياسي العربي.
أولاً، يجب أن ندرك مفهوم وماهية الدول والنظم السياسية «المستبدة». فهذه النظم، وخلال ممارستها للحكم، بأشكاله السياسية والاقتصادية والأمنية والإعلامية/الثقافية والدينية والاجتماعية تتشكل بين جوانحها أطراف تكون لها وشيجة القربى السياسية والاقتصادية مع تلك النظم. أطرافٌ ليس بالضرورة أن تكون ذات لون مُحدَّد في الانتماء أو في الدور الذي يمكن أن تلعبه تحت تلك الجوانح، بل هي تتوزع على طول النشاط الذي تقوم به تلك النظم والذي أسلفنا ذكره.
قد نرى من أولئك سياسيين. وقد نرى تجاراً وإعلاميين ومثقفين ووجهاء اجتماعيين ورجال دين. إنهم جميعاً يشاركون الرئيس سلطته ولكن بطرق مختلفة. إنهم يبقون ببقائه، ويزولون بزواله. وعند دراسة تجارب التاريخ البعيد والقريب، سنرى أن دور هؤلاء، يكون أكثر ظهوراً في الأزمات، أو عندما يصل النظام السياسي، إلى نقطة اتخاذ قرار حاسم تجاه قضية مفصلية مهمة، يكون لها مَسٌّ بشخوصهم وكياناتهم، بكل ما فيها من علاقات ومصالح سياسية واقتصادية.
خلال فترة التغيير السياسي والاقتصادي بالتحديد، تتحسَّس تلك القوى حجم التهديد الذي قد يطال مصالحها. نعم، المصالح. وهل هناك ما يستفزها أكثر من المصالح؟ لا يوجد. وبالتالي، عندما يرى أولئك النفر، أن مصالحهم باتت مهدَّدة، بل وحتى حين ترى أن أحداً آخر، سيشاركها الحظوة، فإنها لا ترضى بالتغيير، وستسعى إلى كبحه، وهم ما يُمكن أن نطلق عليهم بقوى الشَّد العكسي، الذي يقومون بمحاولة جَرِّ الأمور، إلى نقطة المركز التقليدية، بكل ما أوتوا من قوة.
فالسياسي، الذي تعوَّد أن يأمر في المساء، فيُطاع أمره فوراً، لا يستطيع أن يتخيَّل في يوم من الأيام، أن أمره الصادر يجب أن يُمرَّر على أكثر من مؤسسة دستورية لكي ينال ثقتها، أو أن يتوافق عمله «بالضرورة» مع صحيح القانون لكي يتم تطبيقه شرطاً. والتاجر الذي اعتاد أن تنهمر عليه مشاريع الدولة الخدمية دون منافس أو رقيب، لينتفع منها بشكل فاحش، لا يتخيَّل أن يأتي يوم يتوجَّب فيه أن لا ترسو تلك المشاريع على أحد إلاَّ بنظام المناقصات الشفاف، وبعد أن يُعطِي كل واحد من المتنافسين أفضل الأسعار في السوق، لكي تتم المفاضلة فيما بينهم.
والمثقف الذي اعتاد على أن تفرِدَ القنوات الرسمية شاشاتها لطلعته البهيَّة حصراً، والصحف لقلمه السيَّال حبراً، ليتفوَّه ويتكلَّم بما يريد، واحتكار الفضاء الثقافي بأكمله، يمارس فيه دور الشفيع والوسيط والحاجب، لطباعة هذا الكتاب، ومنع ذاك الكتاب، ويقبض ما يشاء من المال، لا يستطيع أن يرى ذلك الفضاء، وقد دخله آخرون، يبلون أحسن منه فيه، ويناجزونه فيما يقول، ويقاسمونه الشاشة والقرطاس، والندوات والمؤتمرات والمؤلفات، وكل مراكز التأثير والنفوذ.
ورجل الدِّين، الذي اعتاد أن يستولي على المنابر والمايكرفونات، وتنقَل خطَبه عبر الأثير، ويَمنَح الفتوى على هوى سياسة الحكم، فيعطيه شرعيَّة دينية في كل شيء، من الإيماءة حتى استباحة حرمات عباد الله، فيكافأ بالامتيازات، لا يستطيع أن يرى رجال دين آخرين، مُفوَّهين، يغايرونه الرأي، ويؤثرون على قطاعات كبيرة من الناس، بسبب خطابهم الذي عادة ما تستذوقه النفس البشرية لطراوته وقربه من سَمْت البشر، فتهفو إليه بالفطرة بصورة تلقائية.
هؤلاء جميعهم، يشكلون دعائم معركة المصالح الخاصة ضد المصلحة العامة، ومصلحة الأفراد ضد مصالح الشعوب. هؤلاء هم الأخطر في كل معارك التغيير السياسي وتحديث شكل الدول. وقد ذكَرَ لنا التاريخ، أن حكاماً كثيرين، كانوا يستمدُّون قوتهم ليس من جحافل جيوشهم فقط، وإنما كانوا ينهلون من هكذا أحزمة مؤثرة، توفر له مجتمعاً صغيراً يضم كل أشكال التأثير، ولكن بطريقة ضيقة جداً، ويعيش على نظام المصالح والمفاسد.
وفي أحيان أخرى، كانت مثل هذه الأحزمة، منابع للضغط على حكام متنورين، يريدون هوية جديدة لشكل حكمهم، تقوم على العدالة والانفتاح والحرية السياسية والتشاركية في الحكم، لأنها حق طبيعي للشعوب مَع مَنْ يحكمها، إلاَّ أنهم يُلجَمون، وتلجَم حركتهم بسبب قوى الشَّد العكسي. وفي أحيان أخرى، وجدنا أن الصراع يمتد إلى مرحلة كسر العظم، لينتصر حكام مصلحون على تلك القوى المتخلفة والفاسدة. وجدنا ذلك في الدولة الأموية، وفي التاريخ الأوروبي الحديث، سواءً في روسيا القيصرية، أو في فرنسا أو في بريطانيا أو حتى في النمسا المارجريتية.
لا يعتقد أحد أن نظام مبارك كان على غير ذلك الحال. ولا يعتقد أحد أن نظام زين العابدين بن علي كان يسير بغير تلك المعادلة. وحتى في يومنا هذا، ليست الحالة السورية خارجة عن ذلك الإطار. لا يتصوَّر أحد أن الحكم الفعلي هو لدى بشار الأسد وحده فقط، وإنّما هناك شبكة ممتدة من المؤثرين على القرار السوري، لها دور مهم في إبقاء الأمور على حالها وكما كانت (رغم عدم تبرئة الأسد نفسه). وربما هذا هو حال العديد من الأنظمة، سواء التي كانت أو التي هي كائنة فعلاً اليوم.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3612 - الجمعة 27 يوليو 2012م الموافق 08 رمضان 1433هـ
اللهم
اللهم سخر البطانة الصالحة لحكام المسلمين الذين يدلونهم علي الخير
صدقت
والبحرين لا يختفي منها مشهد ظهور أطراف يعرقلون عجلة الإصلاح الجذري