في ظل سياق الحراك العربي الأخير برزت قوى سياسية جديدة متمثلة في أحزاب إسلامية فازت بأغلبية الأصوات في الدول العربية التي أجرت انتخابات برلمانية مؤخراً، حزب النهضة في تونس، حزب الحرية والعدالة في مصر، وحزب العدالة والتنمية في المغرب. والسؤال الذي يثار هنا: هل تحوز هذه الأحزاب على مشروع مجتمعي؟ هل الإسلاميون يملكون تصوراً تنموياً خاصاً قادراً على مواجهة التحديات الاقتصادية التي تعرفها هذه البلدان؟ ما مدى استجابة برامج هذه الأحزاب إلى تطلعات المواطنين في التقليص من الفوارق الاجتماعية وبطالة الشباب ومحاربة الفساد والتأسيس للمواطنة الحقة؟
عندما نتحدث عن «المشروع المجتمعي»، فنحن نتحدث عن مشروع كلي، شمولي. يروم إعطاء تصور جديد للمجتمع وللفرد والحرية، ناهيك كما يقول د. محمد سبيلا إعطاء تصور للنظام الاقتصادي للمجتمع، وبنيته السياسية، وعلاقاته الاجتماعية وقيمه الأخلاقية وتصوراته الميتافيزيقية… فإعداد مشروع مجتمعي يتطلب توفراً متكاملاً لمثل هذه المجالات في تفاصيلها لا في صورتها التخطيطية العامة.
وعليه فالمشروع المجتمعي بصيغة أخرى يروم إلى تحقيق نهضة في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، عن طريق برامج وآليات شمولية ومعيارية قادرة على بلوغ أهدافه وإنزالها لأرض الواقع. فمع موجة «الربيع العربي» أضحت مسألة المشروع المجتمعي تفرض نفسها بقوة، خصوصاً في الدول التي عرفت تغييراً في أنظمتها السياسية كتونس ومصر وليبيا، فبدون توفر مشروع مجتمعي حقيقي لا يمكن الحديث عن أنظمة بديلة لسابقتها، أو تحقيق التغيير المنشود الذي طالبت به الشعوب التي خرجت للشوارع.
إذن التحديات كبرى والمؤشرات على أرض الواقع تشي بأزمة تعيشها كافة القطاعات الإنتاجية، فمعدلات الفقر مرتفعة والبطالة في صفوف الشباب في تفشي مستمر، والقدرة الإنتاجية في تراجع، ناهيك عن صعوبة الاندماج في الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى مخلفات الديون الخارجية التي تنهك الناتج القومي الإجمالي لهذه البلدان. الخروج من هذه الأزمة يعني توفر إرادة حقيقية لإصلاح هيكلي يهم السياسات التنموية والبرامج التعليمية والبحث عن سبل لخلق الثروة، والزيادة في العملية الإنتاجية من خلال إعطاء أولوية للقطاعات الصناعية، وتنقية أجواء الاستثمار من رواسب الفساد.
من التجارب التنموية العالمية الناجحة والرائدة، التي استطاعت أن تخرج من حالة مشابهة لما تعانيه المجتمعات العربية حالياً، نسجل تجربة ماليزيا وتايوان وموريشيوس وبوتسوانا، فوفق البنك الدولي عرفت سنوات 1965 إلى 2005 خروج 15 دولة من حالة التخلف والجمود إلى حالة التنمية والازدهار الاقتصادي، وذلك لامتلاكها مشروعاً مجتمعياً هيكلياً أعاد خلخلة البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية القديمة وأنتج قيماً تنموية حديثة.
ففي الحالة الماليزية كحالة قريبة من البيئة العربية كانت حتى وقت قريب تنعت بدولة الأكواخ وبيوت الصفيح، استطاعت في ظرف وجيز أن تصبح دولة رائدة على المستويين الاقتصادي والتكنولوجي في الربع الأخير من القرن العشرين، وذلك لسبب واحد ووحيد هو امتلاكها لمشروع مجتمعي بقيادة مهاتير محمد، همّ في الأساس بإخراج البلاد من براثن الأمية التي تقبع فيها، بالإضافة إلى الاعتماد على الاقتصاد التكنولوجي والصناعي حتى أضحت ماليزيا من أبرز البلدان المصنعة للتكنولوجيا. ولإحال التوازن المالي تفادت ماليزيا الاعتماد على القروض الخارجية بتشجيع الادخار العائلي وعدم التفريط في العملة الأجنبية…هذه بعض من مكونات المشروع المجتمعي الماليزي الذي استطاعت من خلاله هذه الدولة كمجموعة من الدول الأخرى السابقة الذكر أن تؤسس لمجتمع حداثي متطور ونموذج تنموي يحتذى به.
أهمية هذا الاستطراد تكمن في محاولة قياس ما جرى في بلدان نجحت اقتصادياً وما يجري في بلدان عربية مع حكومات إسلامية تصعد لأول مرة لصناعة القرار الحكومي.
ما يلاحظ في برامج أحزاب النهضة في تونس والحرية والعدالة في مصر والعدالة والتنمية في المغرب، أنها برامج طموحة جداً وسقف تطلعاتها مرتفع للغاية، الشيء الذي لم يتبلور لحد الساعة على مستوى أرض الواقع. ففي المغرب لازال حزب العدالة والتنمية القائد للائتلاف الحكومي يعتمد على ذات السياسات الحكومية السابقة مع تضخم على مستوى الخطاب في محاربة الفساد وتحسين المستوى المعيشي للمواطن، لدرجة أن آخر القرارات الحكومية بالزيادة في أسعار المحروقات انعكست بالسلب على القدرة الشرائية للمواطن، فالحكومة لم تستطع لحد الساعة أن تؤسس لهوية تنموية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية خاصة بها، بحيث لم نجد تصوراً لكيفية خلق الثروة والرفع من الإنتاجية مع إغفال تام لأهمية الصناعة.
ذات الشأن تعيشه الحكومة التونسية بقيادة حزب النهضة، فلحد الآن لم تتضح ملامح المشروع المجتمعي لبلاد ينهكها الفساد المالي جراء مخلفات سياسات ابن علي الاقتصادية والإدارية، لدرجة دفعت مؤخراً الوزير المكلف بالإصلاح الإداري في حكومة حمادي الجبالي إلى تقديم استقالته من منصبه بحجة عدم توفره على صلاحيات وتصور حكومي شمولي يمكنه من تحقيق الإصلاح الإداري وفتح ملفات الفساد.
وقد أبرز تقرير صدر مؤخراً عن مركز «كارنيجي الشرق الأوسط» أن حزب النهضة التونسي يعاني من مشكلتين، أولاً أنه لا يحدد دور الدولة الاقتصادي، وثانياً لا يحدد كيفية جمع الأموال لتحقيق برنامجه الطموح.
ولا يبدو الأمر مختلفاً بالنسبة لحزب الحرية والعدالة المصري، فبرنامجه الانتخابي لرئاسة الدولة بقدر ما يرفع من سقف الطموح بقدر ما يختلف إلى رؤية جديدة للمجتمع لدرجة ذهبت مجموعة من الآراء إلى اعتبار برنامج هذا الحزب لا يختلف كثيراً عن برنامج الحزب الوطني المنحل، بحيث يفتقد إلى وضع الآليات والشروط لإعادة بناء اقتصاد وطني قوي مع الخفض من نسبة التضخم والعجز الموازناتي التي يرزح فيها الاقتصاد المصري منذ عقود. هذا، إلى جانب الغموض الذي لا يزال يلف مستقبل الحريات العامة والحقوق الفردية في ظل غياب تام لمراجعات فكرية حقيقية لأفكار الجماعة التي تمتح وجودها من مرشدها حسن البنا.
عموماً، وبناءً على المعطيات الميدانية، لم يستطع الإسلاميون الذين يتقلدون مناصب حكومية في العالم العربي صياغة مشروع مجتمعي نهضوي يقوم على نظرة حديثة للمجتمع وللسلطة. وإبراز برامج شاملة ومتكاملة لمواجهة التحديات الراهنة بواقعية وحزم حسب ما تقتضيه المرحلة. وهذا يمكن إرجاعه إلى ثلاثة اعتبارات، أولاً: نقص في القدرة على التدبير المؤسساتي للإسلاميين وذلك راجع بالأساس إلى قلة الخبرة في القيادة المؤسساتية وما تقتضيه من رؤية وخبرة علمية وازنة. فخبرة الإسلاميين لا تتجاوز تعاملهم مع العمل الاجتماعي الذي كان هو الرهان الأساسي لتوسيع قاعدتهم الجماهيرية.
ثانياً: الفجاءة في تحمل المسئولية السياسية، فالأحزاب الإسلامية حتى وقت قريب كانت معركتها معركة وجود وصمود اتجاه الأحزاب الحاكمة، وبالتالي لم تتوقع أن تصل إلى الحكومة قبل الحراك العربي، باستثناء حزب العدالة والتنمية المغربي الذي حقّق تراكماً مهماً على الساحة السياسية، لكنه أيضاً لم يسبق له تحمل مسئوليات حكومية.
ثالثاً: ليست لعروض الإسلاميين الفكرية وكتاباتهم التنظيرية ما يوحي باستيعابهم لقيم التنمية وآليات التطور الاقتصادي، والثقافة الحديثة مما يساعدهم على بلورة مشروع مجتمعي ديمقراطي.
إذن، يظل النكوص إلى الخلف والزيادة في تأزيم الوضعية الاجتماعية والسياسية ممكناً، في ظل غياب اجتهادات لبلورة مشروع مجتمعي يتبنى قيم الحداثة والتنوير، وبرامج تنموية هيكلية تؤسس لمفهوم الدولة المعاصرة، التي تقوم على قضاء مستقل ونزيه، واستقرار اقتصادي وبنكي مبني على التنافسية وقيم السوق، وخاضع لرقابة برلمانية صارمة، وجهاز إداري حديث يدار بكفاءات علمية قيمة وذات قدرات تعليمية مهمة، وإعطاء البحث العلمي أهميته التي يستحق، بل الرهان عليه كأحد الروافد الأساسية لأي إصلاح حقيقي منشود.
إنه من دون بلورة هذه الحاجيات كأولويات في مشروع مجتمعي رائد، قد تؤدي هذه الصحوة للإسلاميين ليس إلى حل الأزمة المجتمعية... بل إلى اعتبارهم جزءًا من هذه الأزمة.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3611 - الخميس 26 يوليو 2012م الموافق 07 رمضان 1433هـ
ليش تروح بعيد
فى بلادنا جمعيات أسلاميه بسبب سيطرتها او تأثيرها على القرارات فى بعض المؤسسات عاثت فسادا وتعمل بلا كلل فى تخريب. البلد والاسئثار بالتوظيف