سبعمئة قناة عربية تبث أخبارها وبرامجها صباح مساء. أو لمن شاء أن يتابع كيفما اتفق، فعليه أن يُحملِق في 3212 قناة تلفزيونية هي تعداد القنوات الفضائية حول العالَم. إنه لأمرٌ مهول حقًا. هذا التدفق في المعلومة والصورة طوال اليوم، ولَّدَ صراعًا افتراضيًا، ليس على الأرض، وإنما في الفضاء. جميع تلك القنوات تجيد التحدث، وعرض الألوان والأخبار من زاوية مُوجَّهة، وتثبيت الصورة، بطريقة مُؤثرة، إلى درجة أنك تحتاج إلى ألف كلمة، لكي تعبِّر عن ذات التأثير. لكن تلك القنوات، ورغم إجادتها للتحدث بطريقة لبقة وذكية، فإنها لا تملك الحقيقة بالضرورة.
لنا أن نتخيَّل ذلك العدد من القنوات الفضائية. ولو افترضنا هنا، أن كل قناة من تلك القنوات، عَرَضَت خمسمئة صورة في اليوم، فهذا يعني أننا أمام 1606000 صورة يومية مختلفة، بكل ما تعنيه من تعبيرات وتأثيرات. وإذا ما حَسَبنا المعادلة التقليدية للصحافة، بمساواة الصورة الواحدة مع ألف كلمة (من حيث تأثير الأولى على حساب الثانية)، فهذا يعني أننا أمام 1606000000 من الكلمات المسترسلة. إنه ضوضاء مخيف، أكثر مما هو إخبار وثقافة نقيَّة. بل وربما تصبح الشعوب، في كثير من الأحيان، ضحايا سرقة لوعيهم من قِبَل قراصنة ولصوص.
السَّواد الأعظم من الأخبار مُوجَّه بشكل سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو ديني. أما الصور، فإنها عادة ما توضَع في إحدى لحظات الخبر وكلماته، بالمقدار الذي يزيد من توجيهه، وبالتالي تأثيره على المتلقي. هنا، قد تصبح الحيادية في المجال الخبري والإعلامي أمر دونه شِيبُ الغراب. لا أحد يستطيع أن يكون حياديًا بشكل كامل، لكنه أيضًا غير معذور في أن يكون كذلك، مع قدرته على تفسير الأشياء بالحد الأدنى من القدرات الشخصية. نحن لا نتحدث عن مُسمَّيات وألقاب، قد لا تجيد فهمها القنوات ووكالات الأنباء العالمية، كالفروقات الدينية والعرقية، بل عن أمور جوهرية.
يقولون عن هذا إنه إرهابي، وآخرون ينعتونه بأنه مجاهد. يقولون عن عادات اجتماعية بأنها ضد الحرية، وآخرون يعتبرونها ضمن ثوابت الدِّين. كثير من القنوات الغربية، تقوم بتحليل الأشياء من منطلق وعي مجتمعاتها الليبرالية، فتهز أنتَ كتفًا من تحليلاتها، التي قد تراها غير منضبطة. بالتأكيد، فإن هذه النظرات منهم، تعكس قصورًا في فهم المجتمعات والشعوب، وأيضًا، تظهِر انسجامًا ما بين النظام السياسي الغربي، وبين الفكر السياسي الغربي، الذي بالأصل هو أكثر اتحادًا وتماهيًا مع بعضه، على عكس أحوال الجهة الشرقية من العالم، نتيجة النزعة المتسلطة.
الحال لا يختلف كثيرًا في القنوات العربية. فسوادها الأعظم تعبِّر عن دول وتيارات ومصالح اقتصادية لها أجندتها ورؤيتها للنزاعات وللآيديولوجيا والحركة التجارية. هي تقول وتؤكِّد وتركِّز وتحلل وتشير وتعيد ما تراه مناسبًا لمصالحها. كثيرٌ منها يتناول موضوعات، قد لا تلقى بالاً عند أحد، لكن تكرارها، وتسليط الضوء عليها يزيد من مزاحمتها لأشياء أخرى معروضة، وبالتالي تتموضع تلك القضايا المعروضة، بين أخريات من القضايا، في الرأي العام العربي. وكلما زاد حضور القناة لدى الرأي العام زادت نسبة تأثيرها على الوعي والاتجاه والتصرف وأخذ المواقف.
هنا، تظهر مسئولية فردية مهمة جدًا. فهذه الأخبار يتم طرحها بالطريقة التي ذكرناها. وبالتالي، فإن الصحيح والسليم، هو مفاضلتها بأصولها ومنابعها الخبرية، ومقاربتها مع أخرى بهدف الغربلة والتمحيص. ربما يكون هذا الأمر صعبًا لغير المهتمين بالشأن الإعلامي والسياسي، لكنه يبقى الأسلم والأفضل للفرز وعدم التأثير التلقائي من وهَج تلك الأنباء ذات الزوايا الحادة، العاكسة في جوهرها لأشياء قد لا تمت إلى الحقيقة بصلة، أو أن تصلها بالهامش.
الأخبار المطروحة علينا هي أشبه بمجموعة كبيرة من قصاصات لصورة كبيرة مقطعة إربًا إربًا. التحدي هو كيف نستطيع تركيبها بشكل صحيح وتام، لكي نحصل على صورة متكاملة الملامح والقسَمَات. هذا الأمر يحتاج إلى جهد غير عادي، وإلى ذكاء وبديهة. أكثر من ذلك فتلك القصاصات، هي تختلف في أوزان أجزائها التي تؤثر تأثيرًا أكثر من غيرها في عموم الصورة، فالقصاصة التي تخصُّ العَيْن، تعطي مفعولاً أكثر من تلك التي تخصّ طرف الأذن، أو أسفل الذقن، أو أعلى الجبين، على سبيل المثال، حتى ولو كان حجمها أصغر من غيرها.
هذا الاختلاف في الأهمية، هو ذاته ينسحب على الأخبار. فقد ترِد أخبارٌ لا تتجاوز الستين كلمة، لكنها تصبح ذات أهمية مضاعفة، عن أخبار تزيد عن الثلاثمئة كلمة؛ لأنها باختصار تجيب على سؤال جوهري، أعيا المراقبين، بسبب غياب التحليل الشافي له. قد تجِد أخبارًا لا تعني شيئًا بالنسبة للكثيرين، كتعيين شخص ما في منصب محدَّد، لكنَّ آخرين ينظرون إليه بمزيد من الأهمية؛ لأنه مرتبط بالأساس بأشياء أخرى كانت تحتاج إلى إتمام ومتابعة خبرية لاحقة.
في المحصلة، فإن هذا التدفق المعلوماتي في آلاف القنوات الفضائية، يجعلنا أمام تحدٍ حقيقي، يتمثل في الحفاظ على الوعي. ولكل من دَرَسَ مقدارًا من علوم الإعلام، سيدرك مدى أهمية تشكيل الرأي العام للدول والجماعات الحزبية والمذاهب والأديان! لأن هذه الأطراف جميعها، ترى في عقولنا ومشاعرنا فرصة لا تعوَّض للتسخير والاستعباد، تستطيع من خلالها إدارة معارك، نكون فيها (بلا إدراك) حَمَّالين لراياتها، دون أن نفهم مَنْ نحارب، وإلامَ نحارب، ولمصلحة مَنْ نحارب. هذه هي القضية المركزية اليوم، التي تسبق أي قضية أخرى.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3610 - الأربعاء 25 يوليو 2012م الموافق 06 رمضان 1433هـ
المصداقية
استاذنا العزيز لا تنسى مصداقية القناة و القائمين عليها ينعني استاذ كيف قناة تتابع ما يحصل في الخارج بل تشارك فيما يحصل من زيادةالاخبار المفبركة وتكرارها ولا تلتفت للداخل
الجزيرة
الجزيرة خير مثاااااااااااااااااااااال