العدد 3604 - الخميس 19 يوليو 2012م الموافق 29 شعبان 1433هـ

العالم العربي الجديد يتطلب الشجاعة والتصحيح

شفيق الغبرا comments [at] alwasatnews.com

لم تهتز أركان العالم العربي في السابق كما اهتزت منذ أواخر 2010. فالعاصفة العربية التي بدأت مع انفجار الثورة التونسية تحمل معها كل التراكمات والمشكلات والآمال التي علقت بواقعنا منذ تأسيس النظام العربي الراهن. العاصفة التي لم تعرف سوى محطات هادئة قليلة تكشف لنا كل يوم وجهاً جديداً ومختلفاً من أوجه الواقع العربي. في هذا نعيش كعربٍ في مكبسٍ للتاريخ يضغط المراحل، ويختزل عشرات السنين من التغير والجمود والتأجيل.

إن سرعة تفكك الحالة العربية يعني أن الواقع العربي الذي عرفناه لم يقم على أرضية عادلة وأخلاقية أو إصلاحية. وهذا يعني إن بذور فناء النظام العربي كانت متضمنة في تركيبته، وإنه وصل الى آخر فصوله بفضل تناقضاته. إننا نحصد اليوم نتائج قيام النظام العربي بتهميش طبقات شعبية ووسطى ومثقفين وأجيال شابة.

فالنظام العربي الذي ينحسر أمامنا بنى قوته اعتماداً على الغلبة والتمييز والعائلية الضيقة، وتدخل الأمن والجيوش في السياسة، وغياب المساءلة وانتشار الفساد. ويصح القول أننا نشهد يقظة الأغلبيات المهمشة وعودة الجموع المبعدة من الشعوب العربية، لكن هذه العودة هي الأخرى تفتح الباب لتأكيد خصوصية كل فئة كما حصل مع الأقباط والأكراد والأمازيغيين وأقليات أخرى تزداد تصميماً على نيل حقوقها.

إن بناء الجديد يتم في ظل التوترات والمصاعب والتنافس والإختلاف. ما زلنا في البلاد العربية التي اختبرت الثورات أو تلك التي عرفت حراكات شعبية إصلاحية نعيش في مرحلة البحث والاستكشاف.

العرب في هذا الزمن يتعلمون كيف يتحاورون بعد أن أمضوا عقوداً في كنف أنظمة تحارب الحوار، وهم يتعلمون كيف ينظمون انتخابات بعد أن عاشوا عقوداً في ظل واقع يخلو من كل انتخابات، ويتعلمون مبدأ القبول بنتيجة التصويت بعد أن اعتادوا على أنظمة شعارها التزوير. يتعلم العرب على التنافس الحزبي وكتابة الدساتير الخالية من اللغة الفوقية بروح جديدة.

ومن الطبيعي أن يتصاعد دور «الإخوان المسلمين» والتيارات الإسلامية في أعقاب الثورات. فهذا التيار العربي الذي مضت عليه عقود في المعارضة هو أكثر التنظيمات المعارضة تأثيراً وقدرة، وهذا يمثل في حد ذاته بداية تحول الموجة الإسلامية من حالة المعارضة السرية إلى حالة العلنية السياسية.

لكن مكانة الإسلاميين في الواقع العربي الجديد ليست مضمونة، وذلك لأنها مرتبطة أساساً بمدى قدرتهم على التعامل مع قضايا التوظيف والبلدية والطرقـ والاقتصاد والتعليم والصحة، والقيادة والرؤية، وتقدير الموقف والتعامل مع التنوع والإختلاف والمرأة والحقوق.

المجتمعات العربية أقل تعطشاً لمن يقدم لها الأيديولوجيا، وذلك لأنها أكثر سعياً للمشاركة السياسية ولحماية حرياتها وتطوير واقعها. المسئوليات الجديدة ستفرض على التيار الإسلامي التأقلم مع التغير. ولكن التيار الوطني والوسطي أو التيار غير الديني والليبرالي هو الآخر كسب مواقع وأماكن في ظل الثورات العربية، كما حصل في الكثير من الأصوات التي حصل عليها عدد من المرشحين في الإنتخابات المصرية، وكما حصل في الإنتخابات الليبية أخيراً. إن التيار الوسطي والليبرالي ذا العمق الوطني العربي والإسلامي مرشح لإعادة ترتيب صفوفه وللتصاعد في آفاقه وطروحاته.

ولو عدنا قليلاً إلى الوراء ودرسنا كل ثورة على حدة لوجدنا أن الثورات العربية كانت في جلها مدنية باحثة عن الحرية والعدالة والحياة الكريمة.

لقد تغير المشهد إلى نقيضه بسرعة قياسية. يكفي أن نلاحظ زيارة الرئيس التونسي العروبي المنصف المرزوقي لمصر منذ أيام ومقابلته رئيس مصر محمد مرسي. في هذا اللقاء تحدث كلا الرئيسين بخطاب مختلف عن السابق. كلاهما خاطب الناس بلغة خدمة الشعب والارتباط العربي، وكلاهما كان حتى الأمس القريب في المعارضة وفي السجن أو المنفى، وكلاهما جاء إلى الحكم عبر انتخابات حرة مفتوحة مثلت اختيار الشعوب. نحن نشهد بروز شرعيات جديدة قاعدتها خيارات الشعب.

ونتساءل بينما تستمر الثورات: هل هذه هي ذات الشعوب التي قبلت بالديكتاتورية على مدى عقود طويلة؟ هل هذه هي نفس الشعوب التي كانت حتى الأمس القريب تتخوف من أدنى التعبيرات السياسية؟ كل شيء انقلب، فالشعوب تطالب بالحقوق بإصرار، إذ أصبح للإضراب عن الطعام معنى جديد، وأصبحت للاعتصام أبعاد أكثر عمقاً.

عالمنا ينقلب من كل النواحي، حيث تتواجه ثورات مع أكثر الأسلحة فتكاً، كما يحصل الآن في سورية. ففي سورية ينجح شعب أعزل بأسلحة بسيطة في مواجهة أحد أكثر الأنظمة العربية بوليسية وفتكاً.

لم تعد الشعوب تتقبل من يسعى لإعادتها إلى القفص القديم وقضبانه الوهمية، فكل من يحد من حرياتها يصبح عدواً لها. لقد تغير أيضاً مفهوم القوة والسلطة والحكم بأسرع من أن نستوعبه. فالسلطة الآن هي سلطة الشعب القائمة على الانتخابات والحريات وتداول السلطة.

لقد دخل العرب إلى عالم جديد يتطلب منهم الكثير من الشجاعة والتصحيح. ما زالوا في البداية، فهذه صحوة أمة تزخر بالكثير من المنعطفات الحادة. فالحراك العربي يستمد قوته من التاريخ، ومن الذات المدفونة في ثنايا الأزمان، ومن ذاكرة تاريخية مسجلة فوق كل المساحات، ومن آمال وأحلام تتوالد بلا إنقطاع. يقظة الأمة تحمل نواقص وأخطاء وتجاوزات، إلا أنها في المآل التاريخي والإنساني ستنقل العرب من حالة إلى أخرى، عبر التجربة والخطأ، وعبر التعلم والتصويب.

إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"

العدد 3604 - الخميس 19 يوليو 2012م الموافق 29 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:04 ص

      سلموا رقابهم ل...


      اذن ما هو المطلوب غير العدل وتصحيح ما يمكن قبل فوات الاوان

اقرأ ايضاً