هدفان رئيسيان، طرحتهما كل الثورات الاجتماعية، في التاريخ المعاصر: نزاهة الانتخابات البرلمانية، واستقلال القضاء. الأول تعبير عن سيادة مبدأ الحرية، وقدرة الناس على المشاركة في تقرير مصائرهم وأقدارهم. والثاني، يعتبر استقلال القضاء، وعدم خضوعه، أو تبعيته للسلطة شرطاً لتحقيق ميزان العدل، الذي هو غاية إنسانية مثلى.
لم تختلف أهداف ثورة يناير/كانون الثاني في مصر عن غيرها. فشعارات الحرية والعدل والكرامة والمساواة كانت حاضرة بقوة في نداءات الحناجر، في ميدان التحرير والميادين الأخرى التي هتفت للثورة.
على أن أحداً لم يتصور مطلقاً، أن تحدث حالة انفصام بين مجلسين يفترض فيهما أن يمثلا نبض الثورة، في تعبيرها التشريعي والقضائي، وأن يكون الرئيس المنتخب بعد الثورة محمد مرسي، أول من يقود حالة التصادم بين المؤسستين، التشريعية والقضائية.
إن العلاقة بين المؤسستين التشريعية والقضائية، كما هي الآن في مصر، موضوع معقد ومركب. فالمجلس، رغم أنه يفترض فيه أن يكون معبراً عن الإرادة الشعبية، جاء في غالبيته من لون واحد، وحمل شكلاً أيديولوجياً، وتم انتخابه في عجالة، قبل الاتفاق على دستور دائم للبلاد، تحدد بموجبه صلاحيات المؤسسات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
وكانت هي المرة الأولى أيضاً، التي ينتخب فيها رئيس للجمهورية، قبل أن تعرف صلاحياته. ولعل مؤسسة القضاء هي الوحيدة التي اتفق الجميع على أهمية استقلاليتها وممارستها لصلاحياتها، بتركيبتها التي قامت عليها قبل الثورة، حيث اعتبر المساس بها خطاً أحمر.
والنتيجة أن هذا اللون الواحد، سيطر بموجب الانتخابات النيابية على المجلس، ويسيطر على الموقع الرئاسي، رغم نسبة الأصوات المتواضعة جداً التي حصل عليها الرئيس المنتخب، والتي لم تتجاوز الـ 25% من المواطنين المصريين الذين يجيز لهم القانون التصويت في الانتخابات.
يضاف إلى ذلك، أن نسبة جيدة تحرك الشارع المصري، تنتمي إلى هذا اللون السياسي، بما يضيف إلى القضية المطروحة ارتباكات وتعقيدات أكبر، حيث ينقسم الحراك المصري الآن، إلى ثلاثة ألوان رئيسية: لون يتحرك في شارع التحرير، يطالب بصلاحيات أكبر لرئيس الجمهورية، وبعودة العسكر إلى ثكناتهم بعد تسليم السلطة للرئيس، ولون سياسي آخر، يتظاهر في ميدان طلعت حرب، يساند القضاء، ويطالب باحترام قراراته، ولون ثالث، يتظاهر أمام المنصة في مصر الجديدة، يناصر العسكر، ويقف بالضد من تفرد الإخوان المسلمين بالسلطة في مصر.
إن اللون السياسي المهيمن على الأمور الآن، بقيادة حزب الحرية والعدالة، يعمل على تفجير الصراع بين المؤسسة الرئاسية، والمجلس العسكري. وقد عبر هذا الحزب عن نيته هذه بسلوكيات مختلفة. فعلى سبيل المثال، طالب المستشار القانوني للحزب، الدكتور أحمد أبوبركة، رئيس الجمهورية بإعادة العمل بدستور 1971 وإلغاء كل الإعلانات الدستورية السابقة منذ قيام الثورة.
ومن جهة أخرى، قاد حزب الحرية والعدالة أيضاً، مظاهرة، أطلق عليها اسم المظاهرة المليونية، بميدان التحرير، لكن المشاركة فيها كانت محدودة جداً. ورغم ذلك، أعلن قادة التظاهرة استمرار اعتصامهم لحين إلغاء الإعلان الدستوري المكمل، وتسلم الرئيس مرسي لكامل صلاحياته.
وسيجد الرئيس مرسي نفسه بين خيارين ربما يكون أحلاهما مراً، إما الخضوع لانتمائه الحزبي، وإصدار إعلان دستوري من جانب واحد، من دون التشاور مع المجلس العسكري، ومن دون استفتاء شعبي، أو رفض إحداث أي تغيير، لحين إصدار دستور جديد للبلاد، وإجراء انتخابات نيابية أخرى، واستكمال بناء مؤسسات دولة الثورة، ووضع نفسه في صراع مع الحزب الذي ينتمي إليه، والذي كان له الفضل الأول في وصوله إلى السلطة. ويبدو أن الخيار الأول هو الأكثر احتمالاً.
والواقع أن ما هو متوافر من معلومات، يؤكد من دون لبس أن الرئيس انحاز لعصبيته الأيديولوجية، وقرر إعادة البرلمان المنحل، في خطوة اعتبرها الكثير من القانونيين ضربة موجعة للقانون والدستور المصري، وأنها التفاف على المبادئ التي انطلقت من أجلها ثوره 25 يناير، وأنها وضعت مصر مجدداً، على كف عفريت، وأضافت زيتاً إلى الواقع المأزوم أصلاً، بما يؤثر سلباً في الحياة السياسية في مصر الشقيقة.
والأكثر سوءاً في خطوة الرئيس، هو أنه اختار الانحياز إلى قوانين الحزبية الضيقة، بدلاً من الانحياز للشعب الذي اختاره في الموقع الأول، وأحدث وقيعة بين أهم مؤسستين، في ظل أي نظام ديمقراطي، هما مؤسستا التشريع والقضاء. لقد فضل الخضوع لقرار مجلس شورى الجماعة، الذي أكد عودة مجلس الشعب للعمل، كاشفاً عن تناقض فاضح بين أدائه اليمين الدستورية أمام هيئة القضاء، ممثلة في الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا ومجلس القضاء الأعلى من جهة، ونقض أحكامها من جهة أخرى.
سيجادل كثيرون في أن ما أقدم عليه الرئيس لم يكن سوى إلغاء لقرار إداري أصدره المجلس العسكري، بتنفيذ حل برلمان منتخب، ومنع أعضائه من دخول مقر المجلس، وأن مبرر ذلك هو إثبات مكانته وممارسة صلاحياته، وعدم تمكين المجلس العسكري من ممارسة التشريع، في وجود رئيس منتخب، ينبغي أن تفوق هيبته وصلاحياته هيبة وصلاحيات أية هيئة أو مؤسسة أخرى.
لكن ذلك خلق أزمة قانونية وسياسية في بلد يعاني مشكلات تنوء بحملها الجبال، وأوقع صداماً لا يمكن التنبؤ بنتائجه بين القوى السياسية الحزبية والمدنية، والمجلس العسكري الذي يمثل صمام الأمان في حماية أمن مصر واستقرارها. كما طرح السؤال بقوة عن أيهما المرجع بالنسبة إلى الثورة، الانحياز لمؤسسة التشريع أم الالتزام باستقلالية القضاء؟
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3604 - الخميس 19 يوليو 2012م الموافق 29 شعبان 1433هـ