بينما أقلب أوراق أجندتي الخاصة، لأستقبل شهر يوليو/ تموز هذا العام، وهو شهر له ذكريات عظيمة في مخيلة من هم أبناء جيلي، تناغمت في أذني مقولة رددها الشعب المصري في مثل هذه الأيام منذ ستين عاماً كشعار لثورة 23 يوليو 1952وهي «أرفع رأسك يا أخي عالياً فقد مضى عهد الاستعمار»، تذكرت هذه المقولة وأنا أجد نفسي شاهداً مرة أخرى على ثورة مصرية جديدة هي ثورة 25 يناير/ كانون الثاني، يردد فيها الشعب شعاراً مشابهاً هو «ارفع رأسك فوق أنت مصري»، فعندما قام جيش مصر وضباطه البواسل بثورة 23 يوليو كان هدفه تخليص مصر من نظام فاسد يقوم على الإقطاع والرأسمالية المستغلة، واليوم نحن نعيش ثورة جديدة هي ثورة 25 يناير، خرجت فيها الجماهير - وفي طليعتهم الشباب - مطالبة بالتغيير السلمي من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وكان للجماهير ما أرادت واستطاعت أن تفرض كلمتها، حيث وقفت القوات المسلحة إلى جانبها، على نحو اتسق مع مبادئ هذه المؤسسة الوطنية العريقة، كما جاءت الأهداف التي نادت بها ثورة 25 يناير استكمالاً للأهداف التي أعلنتها ثورة 23 يوليو، والتي لم تستكمل تحقيقها، وهي القضاء على الفساد والفقر والرشوة والمحسوبية والاحتكار في الثروة والسلطة وتطبيق العدالة والحرية والكرامة الإنسانية وإقامة حياة ديمقراطية حقيقية.
تعيش مصر الآن ما يسمى بـ «الجمهورية الثانية» التي ولدتها ثورة 25 يناير، وقد شغل ذلك اهتمام كل مصري بل كل عربي من الخليج إلى المحيط، ولن أكون مبالغاً إن قلت غالبية دول العالم، ذلك المصطلح الذي اعتبر فيه المحللون السياسيون أن الجمهورية الأولى هي جمهورية ثورة يوليو، التي اتصفت بالاستناد إلى العسكر، وأن الجمهورية الثانية هي جمهورية ثورة يناير، والتي اتصفت بالاستناد إلى الحركة الشعبية، التي حماها العسكر، فحضور الجيش كمؤسسة وطنية ترمز لانصهار المصريين، كانت تمثل طليعة التغيير في يوليو 52 وتؤكد أنها حاضنة للتغيير في 25 يناير.
لقد ذهبت الجمهورية الأولى بما لا لها وما عليها من غياب تعدد سياسي حقيقي وخصوصاً في انتخابات رئاسة الجمهورية، حيث كانت كلها استفتاءات وليس انتخابات تنافسية، ثم جاءت الجمهورية الثانية قائمة على أساس هذا التعدد، الذي أفرز انتخابات رئاسية تنافسية شفافة، جاءت بالرئيس محمد مرسي رئيساً لمصر، وعليه فمصر الآن تستعيد عافيتها من خلال التأسيس على عدة محاور هي:
- إن التحول الديمقراطي في مصر على النحو الذي يتم به حالياً وسط تأييد شعبي وسياسي ودولي سيؤدي إلى استقرار شامل في مصر ولاشك في أن استقرار مصر وأمنها هو جزء لا يتجزأ من أمن واستقرار المنطقة العربية.
- إن مصر كانت وستظل دولة مؤسسات والتطورات السياسية فيها تستند إلى قوانين وتقاليد سياسية مستقرة وبإشراف قضاء مصر الشامخ المستقل.
- إن انتماء مصر العربي موضع إجماع شعبي وسياسي كامل وستظل ملتزمة بدورها القومي، ومسئوليتها تجاه قضايا أمتها العربية وفي مقدمتها قضية العرب الرئيسية قضية فلسطين، وأن تعزيز التعاون العربي في مقدمه أولويات مصر وموضع إجماع من جميع التيارات السياسية... وأن التطورات التي تشهدها مصر تعزز هذا الدور وتلك المسئولية القومية.
- إن المناخ السلمي الذي تمت فيه الانتخابات الرئاسية... والقبول الشعبي والسياسي لنتائجها يؤكد استقرار الأوضاع في مصر على نحو يؤكد تشجيع وحماية الاستثمارات والشفافية وحكم القانون وتشجيع السياحة.
- إن المناخ السياسي والفكري والثقافي الذي تتم فيه التحولات الديمقراطية في مصر يؤكد احترام جميع أبناء الشعب المصري للقيم المصرية والعربية الإسلامية على النحو الذي تضمنته وثيقة الأزهر الشريف منارة مصر والأمة.
- إن نجاح العملية الانتخابية يؤكد الدور الإيجابي للمجلس الأعلى للقوات المسلحة في قيادة المرحلة الانتقالية بوطنية وشرف ويحرص على مصالح البلاد العليا بحياد تام بين جميع التيارات والأحزاب السياسية.
إن ثورة 25 يناير أسفرت عن تغييرات جذرية، لا رجعة فيها في مختلف مناحي الحياة المصرية، وعززت قدرة مصر على الاضطلاع بدورها التاريخي على صعيد السياسة الخارجية، بما في ذلك دورها في مختلف المحافل الدولية، وحظت بدعمها في خطاها نحو مستقبل مشرق واثق يقوم على الحرية والمساواة والعدالة.
سياسة مصر القادمة
لعل تزامن هذه الذكرى الـ (60) لثورة يوليو مع أول زيارة خارجية يقوم بها الرئيس محمد مرسي - عقب توليه مقاليد السلطة في مصر - للمملكة العربية السعودية، في 11 يوليو الجاري، ولقاءه بخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، وعدد من القيادات السعودية، يعطي لذكرى ثورة يوليو زخماً نحو التأكيد على ثوابت الماضي العريقة العالقة في خواطر كل العرب والمصريين، بأن القاهرة والرياض هما قطبا العالم العربي والإسلامي.
كما أن خطاب الرئيس محمد مرسي الأول بجامعة القاهرة، قد جاء برسائل عديدة تؤكد على ثوابت في سياسة مصر الخارجية خلال السنوات القادمة، تمثلت في:
- أولاً: ما أشار إليه الرئيس مرسي من ضرورة التزام مصر بجميع تعهداتها الدولية، فهي دولة عريقة لها ثقلها، ومن ثم فهي حريصة على التزاماتها بقدر حرصها على وجودها وعلى مكانتها، فإذا كانت الثورة قد أسقطت النظام فإن الدولة لم تسقط ولا يمكن أن تسقط، وأن الاتفاقيات التي أبرمت في العهود السابقة قد أبرمت باسم الدولة ولا يصح أن تنسب للنظم أو الحكومات السابقة.
- ثانياً: لا يمكن المساس بعلاقات مصر الخارجية في اتجاه خلق توتر مع أية جهة خارجية، لاسيما ونحن في مرحلة ترتيب البيت من الداخل، لكن ذلك لا يعني عدم التغيير في السياسة الخارجية، إنما يعني التغيير في اتجاه تحسين العلاقات مع جميع الأطراف الخارجية، وذلك علي أساس ثلاثة مبادئ:
- المبدأ الأول: استقلالية القرار المصري
- المبدأ الثاني: توازن المصالح مع الأطراف الخارجية ومراعاة التكافؤ مع هذه الأطراف
- المبدأ الثالث: استعادة مصر لمكانتها الريادية ودورها الإقليمي على أسس جديدة قوامها المشاركة مع الجميع وتوزيع الأدوار بما يتناسب مع إمكانات كل طرف في المنظومة الإقليمية.
- ثالثاً: جاءت عبارة الرئيس مرسي - التي كررها مرتين صريحة ومباشرة - وهي أن «المصريين لا يرغبون في تصدير الثورة» كما شدد أيضاً على عدم تدخل أحد في شئون مصر الداخلية.
- رابعاً: جاءت مقولة الرئيس مرسي «مصر داعمة للشعب الفلسطيني» وهو ما يعني أن مصر ستحاول مساعدة الفلسطينيين جميعاً قدر استطاعتها.
- خامساً: أظهر الرئيس مرسي قدراً كبيراً من التعاطف مع الشعب السوري ولم يشر إلى نظامه في خطابه.
- سادساً: تنويه الرئيس مرسي في خطابه إلى تفعيل السوق العربي المشترك والعمل العربي المشترك بما فيه اتفاقية الدفاع.
مصر ستعود سريعاً...
أنا من المتفائلين جداً بنهوض مصر سريعاً، وعودتها إلى ريادتها ودورها الفعال عربياً وإقليمياً ودولياً، مصر ستعود سريعاً بعد أن تسترد استقرارها السياسي وتتعافى اقتصادياً، ومن يُرد الوقوف إلى جانبها فعليه ألا يفوت مثل هذه الفرصة، فالأشقاء العرب يعرفون أهمية ومعنى العودة المصرية، فالمقعد المصري الفارغ لا يمكن لأي كان غير مصر أن يملأه.
لقد كانت جدارة مصر في تقديم مثال دولة المواطنة، لشعوب عالمها العربي والإسلامي، بل وللدنيا بأسرها، انطلاقاً من إدراك قدر مصر; كأعرق الأمم قاطبة، فقد سجل عالم الآثار الأميركي المتخصص في علم المصريات «جيمس هنري بريستد»- في أحد كتبه عن مصر - أن المصريين كانوا أقدم مجتمع على الأرض اندمج في أول أمة موحدة تضم ملايين البشر تحت حكومة مركزية قوية.
وختاماً ربما أضيف إلى المصطلح الذي تعيشه مصر الآن «الجمهورية الثانية»، مصطلحاً آخر، نحن بحاجة ماسة إليه الآن، هو «جمهورية لم الشمل»، فمصر التغيير الآن تسعى لتعزيز قوتها وجبهتها الداخلية والتفاف أبنائها واجتماعهم يداً واحدة، ووضوح الرؤية والهدف وتشجيع مراكز القوة والقرار الداخلي لتحويل الثورة إلى إنماء وإصلاح ونهوض لبناء دولة قوية ديمقراطية تواجه تحديات الخارج والداخل بقوة لا تلين.
حفظ الله مصر وشعبها من شرور الفتن، وعبر بها إلى بر السلام والأمان والرخاء.
إقرأ أيضا لـ "محمد أشرف حربي"العدد 3602 - الثلثاء 17 يوليو 2012م الموافق 27 شعبان 1433هـ
حكاية شعب
للنور رايحين للخير رايحين مع كل من يحمل المسئولية بأمانة واخلاص _ مصر قلب الامة النابض وينبغى ان تأخد موقعها المناسب والمهم على الخريطة العالمية