يتيح لنا التاريخ كشفاً أميناً وصادقاً لسيرة المجتمعات وحياة الشعوب، وضمن هذه السيرة تحتشد مواقف أصحاب الرأي والنخب الاجتماعية التي تكون - في العادة - قادرةً على التعبير عن أشواق وتطلعات مجتمعاتها، إن لم تكن هذه النخب أصلاً هي من يصوغ مواقف الأمم وحياة الشعوب، ويخلق لها قناعاتها في الميادين الفكرية المختلفة.
سأختار من ذاكرة شعب البحرين مثالين مهمين من تاريخنا الوطني لهما دلالة بالغة، المثال الأول تعود تفاصيله إلى مطلع السبعينات من القرن الماضي والبحرين تتهيأ لتحتل مكانتها الإقليمية كبلد مستقل، فقد تم إقناع شاه إيران بفكرة الوسيط الدولي، وسبق أن عرضت عدة اقتراحات منها ما تقدمت به إيران بإجراء استفتاء رسمي للسكان تحت رقابة الأمم المتحدة، وقد رفضت في حينه الحركة الوطنية في البحرين هذه الفكرة لأن عروبة البحرين ليست موضع شك. كما أن الاستفتاء سابقة خطيرة قد تطالب به إيران في الأزمات الصغيرة في الخليج التي يشكل فيها الإيرانيون نسبة عالية.
ووسط تناقض الأفكار واختلاف الرؤى، تقرّر أخيراً الأخذ بمقترح مندوب إيران في الأمم المتحدة الذي رفع للأمين العام في 9 مارس/ آذار 1970 طلباً ببذل مساعيه للتعرف على رغبات شعب البحرين وذلك بإرسال مندوب شخصي للبحرين، وهو ما تم بالفعل. وقد خلُص المندوب الشخصي فيتوريو ونسبير جوشياردي، بعد أن استخدم كل وسائل الاتصال بالأهالي غضون أسبوعين هي عمر مهمته في البلاد، إلى أن «الأغلبية العظمى لشعب البحرين ترغب في الحصول على اعتراف بشخصيتهم في دولة مستقلة تماماً ذات سيادة كاملة».
وقد لاحظ التقرير اختفاء الروح الطائفية، فقد زار المبعوث الدولي علماء السنة والشيعة معاً، وأعربوا جميعاً عن موافقتهم على الاستقلال، ويورد الباحث إبراهم العبيدي في كتابه «الحركة الوطنية في البحرين» تعليقاً على الحادثة بقوله وهذا الموقف الوطني الثابت يؤكد على «عدم تعلق الشيعة بإيران خلافاً لما كان راسخاً في الأذهان».
في السياق ذاته، كان موقف المؤسسة الدينية في كل من العراق والبحرين ينسجم مع هذه المبدئية والحزم الوطنيين، فأثناء زيارة أمير البحرين الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (ت 1999) للعراق العام 1968، سلّم الوجيه الحاج محمد بن مكي البحارنة (ت 1968) نجله رئيس الأوقاف الجعفرية السابق صادق البحارنة الذي كان ضمن الوفد المرافق للأمير، رسالةً للسيدمحسن الحكيم (ت 1970) فحواها: «قد يطلب منكم سمو الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة المساعدة بشأن تثبيت عروبة البحرين فأرجو من سماحتكم ألا تقصّروا». وكانت نتائج الزيارة أكثر مما توقع وفد البحرين، لأن الإمام الحكيم، المرجعية الشيعية الأبرز وقتها في العالم الإسلامي، وقف وقفةً تاريخيةً من أجل عروبة واستقلال البحرين كما يقول صادق البحارنة.
أما المثال الآخر، فيتمثل في موقف رجل دين متواضع وشريف، سكنه الهم الوطني منذ يفاعته فانخرط في إهاب أول ائتلاف وطني للقوى السياسية في الخمسينات (1954 - 1956) ينشد الاستقلال ويتمسك بحق المطالبة بالإصلاح السياسي.
فبعد أن استقرت به الإقامة في النجف الأشرف منفياً من بلده عقب الضربة الأمنية التي لحقت بزعماء هيئة الاتحاد الوطني، وفي أحد مساءات صيف العام 1957 زار أحد زعماء هيئة الاتحاد الوطني السيدعلي كمال الدين (ت 1974) بعد صلاة المغرب ثلاثة مندوبين عن حكومة شاه إيران، يحملون معهم عرضاً من الشاه فحواه دعوة ملكية للإقامة هو وعائلته في إيران «معززين مكرمين»، وليكون السيدعلي كمال الدين عضواً في البرلمان الإيراني لشغل المقعد الشاغر الخاص بلواء البحرين، فما كان من السيدكمال الدين إلا أن كاشف ضيوفه بأنه لا يقر ولا يعترف أصلاًً بتبعية البحرين لإيران، بل هي جزءٌ من الوطن العربي الكبير «فكيف يريد جلالته أن تصبح عن طريقي تابعة لإيران؟».
وبعد نحو أربعين يوماً يعاود مندوبو الشاه طرق باب السيدكمال الدين للمرة الثانية، مضمنين عرضهم بوعيد مبطن، فـ «ذراع الشاه طويلة» كما قالوا له، ما دفع السيدكمال الدين إلى أن يعرض الموضوع على قائمقام النجف السيدمهدي هاشم، وقد تدبّر الأخير موعداً للسيدكمال الدين مع رئيس الوزراء نوري السعيد في دار السراي الحكومي في بغداد لوضع حدٍّ لهذه المضايقات.
ستكون هذه الحقائق عاديةً عندما يكون هناك تصالح مع التاريخ، ونكون أكثر رأفةً في تعاطينا الإنساني مع تنوعنا المذهبي، لكنها ستكون حقائق مثيرة للدهشة بلحاظ واقع مأزوم بالشبهات ومعبأ بالحذر. واقع يجري فيه تزوير الذاكرة التاريخية للشعوب من أجل إدانة مكوّن مذهبي على خلفية تباين سياسي في الموقف تجاه مستجد طارئ، وتتخذ فيه كل من «العقيدة» وشوارد «التاريخ» وسائل مغرضة للتخوين والتزييف ولي عنق الحقائق.
في دراستها المهمة «صنع القرار في إيران والعلاقات العربية الإيرانية»، تستعرض نيفين مسعد موقف الحركات الإسلامية السنية والشيعية من نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية (1979) وتشير إلى أن الإحساس الوطني المتجذر في نفوس الشيعة العرب، كان من بين أهم العوامل التي حدّت من التماهي مع التجربة الإيرانية الوليدة، وتقول «وهي الحالة التي يجسدها بجلاء استعراض تطور موقف شيعة العراق من نظامهم، ففي العام 1921 أفتت مراجعهم بتحريم المشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي للتصديق على المعاهدة البريطانية - العراقية، وفي 1937 عارضوا إبرام المعاهدة العراقية - الإيرانية التي تنازل العراق بمقتضاها عن سيادته على جزء من شط العرب، وفي أثناء حرب الخليج الأولى التزموا الجانب العراقي ضد إيران. أكثر من ذلك في تعبير الانتماء القومي العربي، أعلن مجتهدو العراق الكفاح ضد الاحتلال الإيطالي لليبيا، وكوّنوا لجاناً لهذا الغرض في مختلف أنحاء العراق».
هل نحن بحاجة لكي نعطي الدليل على وطنية وصدق نصف سكان هذا البلد؟
أخشى أن تكون الإجابة نعم، لأننا في زمن صارت فيه البديهيات تحتاج لأكثر من دليل وقرينة، فيما الأكاذيب تلوكها الألسن كمضغة لبان رخيص في عالم يطرب للإثارات الطائفية ويصفق لها باليدين والرجلين.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 3601 - الإثنين 16 يوليو 2012م الموافق 26 شعبان 1433هـ
لا فائده
مقال اكثر من رائع ولكن النظام ومن لف لفه والمؤزمين والطائفيين بكل أسف
لسنا بحاجه
لا لسنا بحاجة لتقديم أدلة على وطنية وصدق نصف سكان هذا البلد.
فوطنيتهم واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار لمن يرى بصدق ويحترم عقله وحواسه، والشواهد في ذلك لا تعد ولا تحصى.
مقال جداً جميل يا استاذ وسام والله يعطيك العافية
شكرا لكم
الشعب البحراني شعب اصيل .. لا يساووم في حبه لوطنه وتضحية من اجله ..
لذلك لا يحتاج لشواهد
لاحياة لمن تنادي
وكفرو بها واستيقنتها انفسهم (قرآن كريم)
لقد اسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
تلك شواهد والشواهد كثيرة لكن ...
لا تحتاج لشواهد بل الاخر هو من يحتاج لها
المواطن الاصيل لايحتاج لدليل على وطنيته وحبه لوطنه واهله ولا يقبل قسمة وطنه على اثنين
للأسف الإجابة نعم .. فهل ننتظر أن تكون أزمة - لا قدّر الله - لإثبات الذهب من الفالصو؟ لقد حدثت في بلد قريب قبل عقدين..
هل نحن بحاجة لكي نعطي الدليل على وطنية وصدق نصف سكان هذا البلد؟
أخشى أن تكون الإجابة نعم، لأننا في زمن صارت فيه البديهيات تحتاج لأكثر من دليل وقرينة، فيما الأكاذيب تلوكها الألسن كمضغة لبان رخيص في عالم يطرب للإثارات الطائفية ويصفق لها باليدين والرجلين.