العدد 3596 - الأربعاء 11 يوليو 2012م الموافق 21 شعبان 1433هـ

الخَرَفُ في المواقف وصناعة التهلكة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

بعد قنبلة بيان أحد التجمّعات «الوطنية!»؛ وعلى رغم ركاكة وفضيحة لغته التي لن ندخل في مساحة تقويم لبديهيات اللغة فيه ما يؤكد أن كاتب البيان ممن يهرفون بما لا يعرفون فيمارسون النصب ساعة الرفع والجر ساعة السكون من دون أن يكون لحذف حرف العلة بدخول أداة الجزم أية قيمة أو معرفة أساساً! كما يحدث لتجّار الأعمدة في بعض الصحف التي لا يلام كتابها لأنهم أميون من جهة والأدهى من كل ذلك أمية المصححين اللغويين الذين هم بحاجة إلى إرجاعهم إلى مقاعد الدراسة بدءاً بالإعدادية ولو تحصّلوا على إجازات جامعية من قسم اللغة العربية من الدكاكين التي تخرجوا منها.

تلك مسألة. مسألة أخرى تتعلق بمضمون البيان، والتداعيات التي حوته من إقراره بما تغاضى عنه وأنكره وجيّش الحالة وقتها ضد مكوّن لم يكن بعيداً عما حواه بيان التجمّع المذكور. كل ذلك يقودنا إلى حال الخَرَفُ الذي وصلت عدواه إلى بعض الجمعيات والبيانات التي تصدر عنها؛ علاوة على ما تحمله تلك البيانات من خَرَف مستفحل يتوهّم أنه يقود البلاد إلى خريطة طريق فيما هو يقودها إلى خريطة «خريط»!

قبل يومين قرأت نبأ دخول الروائي العالمي الكولومبي حائز جائزة نوبل للآداب العام 1982، غابرييل غارسيا ماركيز، مرحلة الخرف بحسب تصريح شقيق غارسيا، خايمي غارسيا؛ لكن في نهاية الأمر لا يمكن التعامل مع خرف روائي معجز أدهش العالم بخريطة رؤيته المعقدة عبر أعمال هي من بين أهم الروايات في التاريخ الإنساني مثل «مئة عام من العزلة»، «خريف البطريرك»، «قصة موت معلن»، «رائحة الجوافة»، و «الحب في زمن الكوليرا» وغيرها من الأعمال. أقول لا يمكن التعامل مع ذلك الخَرَف بعد سنوات من إنهاك الجسد بأمراض مسّته، بمن يستجمّون في المصايف ويعربدون في «المناهل» ويتاجرون بوعي وصحو الناس ويعملون على تزوريهما.

الخَرَفُ عندنا يتضح في الخلاف لا الاختلاف. لا ضيْر في الثاني؛ لكنه يُراد لتجّار المراحل وسماسرة اللحظات الحرجة التي تمر بها أية أمة من الأمم بفعل طبيعة الحراك البشري وبفعل مراجعة الإنسان لما له وما عليه، تطفو على السطح مثل تلك الطحالب التي تروّج للخرف بكل مناحيه.

ثم إن الخرف نتاج مرَض في نهاية الأمر وإذا ذهبنا إلى تعريفات الاختصاص سنقف على الآتي: «الخرف (dementia) هو حالة كانت تسمى، في الماضي، متلازمة الدماغ العضوية. الحديث يدور عن تشكيلة من الاضطرابات النفسية التي جمعت معاً على قاعدة سببية مشتركة واضحة تتعلق بمرض، بكدمة أو بإصابة أخرى في الدماغ تشوّش عمله».

إذاً هو إصابة في الدماغ تشوش عمله! ماذا عن الذين أخضعوا إلى غسيل دماغ تنمّحي معه خيارات إدراكهم ووعيهم فيصبحون نهباً للوهم والتهيؤات والسخط العام على ما عداهم؛ وخصوصاً حين تكون كلفة مواقفهم مدفوعة؟ لن تقتنع بهيمة باستوائهم؛ بل ستكون متيقنة من دخولهم مرحلة خَرَف يشكّلون معه خطراً على ما تبقى من توقد ذهن وخيار في محيطهم.

المأساة والكارثة تتضح في من يعانون خَرَفاً ويتصدّون لمسائل فيها مصائر الناس. والذين يعانون الخَرَفَ السياسي هم شر البلاء والمحق الذي يطولها. حين يخططون للكارثة ويهندسون للمجهول ويضعون قواعد الفوضى ويرسمون طرق التيه والضياع ويعمدون إلى رسم المجهول من المهد إلى اللحد؛ لأن الذي يعاني الخَرَفَ عليه أولاً أن يتلمّس طرقه والنهج الذي يفضي به إلى بيته كي يتصدّى لأمر إرشاد الأمة التي يمثلها عنوة وعلى رغم خياراتها كي يكون لها بعض شأن وقيمة. ومع استفحال الخَرَف ذاك لا يمكن الحديث عن جزء من رؤية لتلمّس طريق؛ عدا الحديث عن ضمان قطعه وبلوغه.

كل هذا الانهيار والتراجع وتركنا فرْجة ومسرحاً بالمجّان أمام العالم، سببه هذا الخَرَف الذي يقود الحياة العربية اليوم. هو هذا الهَرم والشيخوخة التي تتحكّم في كل مفاصل حياتنا. ليست شيخوخة في كامل قواها العقلية. ذلك أمر طبيعي وشائع؛ لكن ثمة من يتصدّون لمصائر الناس وهم في مقتبل العمر أو منتصفه وهم في ذروة الخَرَف وحرجه ومرحله التي لا ينفع معها أي تدخل من أي نوع كان.

شعوب، أمم، دول يتحكم في مصائرها الخَرَف لا يمكن أن تتغنى أو تتمنى أن يكون لها مكان تحت الشمس أو ما دون ذلك. فحين يترك للبصّامين كتابة بيان مصير الأمة وحين يترك للمنتشين والمنطفئين بأكثر من وسيلة، تخطيط غد لها فيما هم لا يميّزون بين أبيض الوقت وأسوده؛ تكون الشعوب والأمم والدول قد اختطت لنفسها طريق التواطؤ مع ذلك الخَرَف، وأن تكون جزءاً منه؛ بل يمكن أن تكون صانعة لنماذج منه مع قابلية تصديره!

ثم إنه لا يحتاج الواقع الذي نحيا تفاصيله بكل الخلل الذي يعتريه وبكل السياسات المرتجلة والمطبوخة أحياناً بعد منتصف الليلة وبكل اللاإنجاز على أكثر من مستوى وصعيد، إلى أن نعيّره بالخَرَف أو نذكّره به؛ لأنه قائم ومكرّس به وعليه.

ليس الخَرَف هو المسألة. تلك سنّة الله في الخلق بعد أن يعمروا؛ إذ ينكّسون؛ ليس عجزاً في الحركة والسعي والاندماج في ضجيج الحياة ونشاطها فحسب؛ بل يمكن أن يكون ذلك التنكيس والعجز في مقتبل عمر الإنسان حين يعطّل عقله ومداركه وخياراته ويرهنها لجهة أو فرد.

يكفي أن يلقي أحد الغافلين منا نظرة ذات صحو على الأداء البائس في الاقتصاد والسياسة والتعليم وحقوق الإنسان والعبث بالبيئة وما يتبع كل ذلك من حقول هي في العمق من حاجات الإنسان وضروراته وارتباطه بها، وما يطوله بفعل ذلك البؤس من إمكانية إصابته بعدواه وعدوى الخَرَف الذي يتحكّم في مصيره.

كأن الخَرَفُ في المواقف صناعة للتهلكة؛ بل هو كذلك.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3596 - الأربعاء 11 يوليو 2012م الموافق 21 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 7:11 ص

      تكملة: أي لغة هذه؟!

      عندما لا يشم الناس رائحة التعالي في النقد المجه لهم، عندما لا يشعرون بنشوة الناقد بما يملك من معرفة فالطريق معبد لكلماته أن تصل القلوب، لغة الإنسان تعبر عن فطنته، ذكائه، رقي مشاعره، والإنسان مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم عُرف.

    • زائر 6 | 6:54 ص

      أي لغة هذه؟!!

      خرف، يهرف، خريط، أميين، إعدادي!! قولوا للناس حُسنا، الأهم من سداد الرأي، أسلوب طرحه وإقناع الناس به، الذي يترجم خلفية المشاعر وراءه.

    • زائر 5 | 5:29 ص

      نسبية الحقد

      من خواطر السو

    • زائر 4 | 4:02 ص

      هل هؤلاء مثقفون ؟؟؟

      اذا كنا هؤلاء هم المحسوبون علينا مثقفون .. فما بال الباقي ؟؟
      ولد البدر

    • زائر 3 | 2:25 ص

      شكرا ..دمتم بود

      شكرا لقلمكم.

    • زائر 2 | 2:22 ص

      الحقد يعمي النفوس عن الحقيقة مهما كانت

      لا يمكن لحاقد ان يكتب ثلاثة اسطر من دون اخطاء فكرية ولغوية ومنطقية.
      الحقد يعمي النفوس ويعيق التفكير ويهدم الجسد بأكمله. ولو تساءلت ما هو سبب الحقد لن تجد جوابا مقنا الا تفسيرا واحدا ولا اريد ذكره هنا..
      نعم هو الحقد: في أيام الدراسة كان هناك طالب لديه نظرات حقد وكراهية ولا تعرف السبب لماذا اي ما هو المبرر، وكنت اتساءل في نفسي لماذا يكرهنا هذا الشخص وبعد مرور سنين عرفت السبب.
      وهو نفس السبب الذي يكرهنا البعض له
      وهو انتماءنا الاصيل لهذا البلد لذلك هناك عمل دؤوب وكتابات من اجل تفريغنا من جذورنا

    • زائر 1 | 1:49 ص

      تحية

      احسنت استاذ جعفر

اقرأ ايضاً