الهم الأكبر لأي مؤسسة صحافية تعتمد على قوانين السوق التي تتحكم في الربح والخسارة هو تأمين الدخل الشهري والسنوي الذي يغطي تكاليف تشغيل المؤسسة، وتعزيز الموقع التنافسي عبر تحقيق هامش مجز من الربحية. ومن المفترض ان ينشر المحتوى الصحافي على أساس حرفي، متوازن، موضوعي، ونزيه لكي تتحقق للصحيفة الصدقية لدى قرائها وتنتشر بقدر يمكنها من اجتذاب الإعلانات التي تمثل نحو ثلاثة ارباع الدخل العام للمؤسسة.
غير ان العلاقة جدلية، فكثرة القراء قد تتطلب كثرة طرح الموضوعات الناقدة والتي تتعلق بموضوعات تؤثر على المعلنين، وبالتالي، فان المعلن قد يلجأ إلى معاقبة المؤسسة الصحافية بمنع الإعلانات عنها. وعليه فان القرارات التي يتخذها المسئولون عن المؤسسات الصحافية تختلف باختلاف التموضع الذي تنطلق منه الصحيفة، والرؤية التي تتبناها إدارة الصحيفة بشأن الصحافة في المجتمع.
من دون شك، فان الإعلانات تؤثر في قرارات رؤساء التحرير، ولكن الفرق هو في كيفية إدارة تلك التأثيرات بحيث لاتضر في مصداقية المضمون، وعليه فان يمكن رصد التأثيرات كما يلي:
- هناك البعض ممن يتخذ موقفا بتحويل محتويات الصحيفة كوسيلة لنشر الاخبار السارة والمعدة مسبقا من قبل إدارة العلاقات العام في احدى الشركة التجارية أو المؤسسات الحكومية ذات الصرف الإعلاني. وفي هذه الحال يمكن ملاحظة اتجاه مادي صرف تتحول من خلاله الصحيفة إلى اداة للترويج التجاري. مثل هذا الأسلوب، وللأسف، ينتشر كثيرا، وتستطيع جهات عدة ان تمارس هذا الدور علانية. وقد وصل الأمر في يونيو 2006 ان قام احد المسئولين في البحرين يتوجيه انذارا مباشرا للصحف، بانه سيتم معاقبة أي صحيفة تنشر ما يزعج الجهات المسئولة بنفس الطريقة التي تتعامل بها الشركات المعلنة الكبرى. وقد حدثت ردات فعل ضد هذا التوجه أدت إلى تخفيفيه وعدم تنفيذه بالطريقة القاسية التي طرحت. النقطة الجوهرية هي ان المسئول الحكومي استشهد بما تقوم به بعض الشركات الكبرى التي تعاقب الصحف التي تنتقدها، واعتبره امرا طبيعيا. هناك حالات رصدت، تقوم بعض الجهات بنشر مقالت وتقارير خاصة بها ونشرها في بعض الصحف، وكان المعلن والصحيفة جهة واحدة... وهذه الممارسة الخاطئة تنافي مع ضرورة تنبيه القارئ بان المادة المنشور إعلانية وليست صحافية، ولكن ضعف العمل النقابي أدى إلى انتشار بعض الممارسات غير المقبولة.
- هناك طلبات يمكن القبول بها من دون ان تضر بالمحتوى... فعدد من الشركات تشترط نشر اخبارها الصادرة عن العلاقات العامة لديها في المكان المخصص لنشر الاخبار الخاصة بالشركات أو الناس، وهذا امر مقبول، وتصدر بشأنه توجيهات إلى محرر الصفحة التي تتخصص في نشر مثل هذا المواد.
- هناك أيضاً طلبات بنشر اخبار ارباح الشركات مع صورة الرئيس المسئول في تلك الشركات، على اساس ان اعلانات ستنشر أيضاً في اليوم ذاته او اليوم يليه بشأن ا لبيانات المالية. وفي هذا المجال، فان الصحف تستجيب بصورة مباشرة، باعتبار ان ذلك من ضمن الخدمة المقدمة من قبل الصحيفة للمعلن.
- بعض الشركات والجهات تقترح نشر مواد صادرة عهنا ضمن المواد التحريرية، وكأنها خبر أو تعليق ضمن المواد المنشورة، مقابل اتفاق سنوي تحصل منه الصحيفة عل مردود مادي. ومثل هذه ا لعروض تطرح احيانا على أساس انها توعوية وعامة، ولكن يجب ان تمنع مثل هذه الممارسات، وأي مادة مدفوعة الاجر، أو انها على شكل مقايضة، التي يجب ان تنشر في مكان يوضح بانها جزء من المحتويات الإعلانية التي تعفى من الالتزامات الصحافية.
- رؤساء التحرير يقعون تحت ضغوط شديدة من قبل بعض المعلنين، ولكن الخبرة أوضحت بان قوة الصحيفة في توازنها وعدم تنازلها عن الجانب الاخلاقي للمهنة، خصوصا فيما يتعلق بجوانب ترتبط بحياة الإنسان وصحته وامنه وحقوقه يؤدي إلى تقوية الصحيفة معنويا وماديا. ومن خلال تجربة شخصية، نجد ان العقلانية تنتصر، ويمكن للصحيفة ان تتجرأ على الجهات المعلنة، ولكن شريطة التوازن واثبات مشروعية النقد.
- احدى الضغوط التي يعاني منها بعض رؤساء التحرير هي ان قرارات الإعلان قد تكون لأسباب غير تجارية، وفي هه الحال، فان التحدي يكمن في عدم اختلاق القصص والاخبار بهدف الانتقاد غير المشروع. فالمعلن قد يكون ارتكب أخطاء في اسلبوب تعامله مع الصحيفة، ولكن هذا لايبرر ارتكاب خطأ معاكس.
- من المشكلات الكبرى هو عدم وجود هيئات للتحقق من الانتشار بالشكل المتوافر في البلدان الاروبية وغيرها من المناطق المتطورة في سوق الإعلان. وما هو متوفر حاليا عليه الكثير من الأسئلة.. ان الأساليب المتوافرة حاليا والتي تستخدم لاتخاذ القرارات بشأن الإعلان هنا أو هناك لا يرقى إلى الحيادية أو المستوى العلمي في التحقق من الانتشار. وقد حدث ان اطلعت على احدى العينات المتخذة لقياس الانتشار في البحرين، واكتشفت ان العينة لا تعترف بمناطق شاسعة مملوءة بالناس، وتفاضل منطقة على أخرى، وبالتالي، فان النتائج غير صحيحة. والمشكلة ربما تعود إلى جهاز الاحصاء الرسمي الذي لا يعطي معلومات صحيحة عن التوزيع السكاني في المناطق المختلفة.
ومما ذكر أعلاه، فان موازنة الإعلانات تؤثر بشكل مباشر على إدارة المؤسسات الإعلامية، وتعاني المؤسسات المستقلة كثيرا اثناء مقاومة اتجاهات تطويع المحتوي الصحافي للإعلان.
ولكن، هناك فرصة لدى المؤسسات الإعلامية ان تستفيد من النمو الإعلاني، وذلك من خلال اعادة النظر في طريقة تنظيم المهنة على الجانب الصحافي/ الإعلامي، وكذلك على الجانب الإعلاني. فهناك الحاجة إلى الحاجة إلى الالتزام بميثاق شرف للمهنة، وهناك الحاجة لتنظيم السوق بحيث تكون هناك مؤشرات علمية وواقعية حول مدى انتشار هذه الوسيلة أو تلك، وبالتالي اخضاع القرارات للحسابات التجارية.
كما ان هناك الحاجة للتوصل إلى تفاهم بين المؤسسات الصحافية والمعلنين يقضي بعدم اخضاع المادة الصحافية المهنية لمواد الإعلانات والعلاقات العامة، خصوصا وان مثل هذا التوجه يضر بمفاهيم عديدة تتحرك على أساسها الأسواق النامية، لاسيما تلك المفاهيم المتعلقة بحوكمة الشركات وبالشفافية وبالمسئولية الاجتماعية.
(ملاحظة: هذا ملخص للورقة التي قدمت في منتدى الإعلام العربي، قاعة الجوهرة – مدينة الجميرا، دبي – الإمارات العربية المتحدة، 24 – 25 ابريل 2007)