كيف يمكننا التغلب على التداعيات السلبية لهذا العالم المترابط على نحو متزايد في ظل قوى العولمة؟ كيف يمكننا إعادة ضبط مؤسساتنا العالمية بحيث يصبح ترابطنا مصدر أمن لنا لا خطراً علينا؟ يقدم لنا التاريخ أمثلة قيمة، بل ويتيح لنا فرصة للمقارنة بين أمثلة من نظم دولية سابقة مع أمثلة من نظمنا الحديثة. فالتاريخ يعلمنا أن هناك علاقة بين الحرب والسلام والصفقات الدولية الكبرى، من جهة، وبين النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، من جهة أخرى.
لتوضيح ذلك، تأملوا في النظام الوستفالي الذي بدأ في الظهور في القرن السابع عشر في أعقاب حرب الثلاثين عاماً، وهو النظام الذي رافق حقبة تشكيل الدول الأوروبية، ونشأة المركنتيلية، وعدد لا يحصى من أشكال التحول الفكري. لقد تأسس هذا النظام في تسوية وستفاليا التي حددت ضوابط قيام الدول الأوروبية. فحين عاد الاحتراب الممنهج إلى شبه الجزيرة الأوروبية على هيئة الحروب النابليونية، فإن ذلك مهد الطريق لمؤتمر فيينا العام 1815. وسار التحول السياسي بالتوازي مع التحول الاقتصادي والثورة الصناعية والتحول الثقافي الناجم عن عصر التنوير. وبعد قرن، انتهت الحرب العالمية الأولى بإنشاء عصبة الأمم. وجاءت التحديات التي تواجه هذا النظام العالمي الضعيف من أزمات اقتصادية شديدة وظهور أشكال من التعصب القومي أكثر عدائية وتوسعية.
من الحرب الثانية إلى الحرب الباردة
بعد الحرب العالمية الثانية، مهّد اجتماعٌ آخر لممثلي الدول ذات السيادة الطريق لإنشاء الأمم المتحدة. وهكذا، قام نظام دولي جديد وستفالي الطابع من حيث تركيزه على الدولة القومية باعتبارها الركيزة الأساسية لهذا النظام الجديد، ولكنه أكثر عالمية بكثير من سابقه ذي المركزية الأوروبية من حيث تنوع أعضائه وشموله الجغرافي.
ومع أن الأوروبيين والغربيين ظلوا يتمتعون بشتى أنواع الامتيازات، إلا أن انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية جعل العضوية في الأمم المتحدة كونية الطابع. وقد كانت الركيزة الاقتصادية لهذا النظام مؤسسات تعرف عادة بمسمى «مؤسسات بريتون وودز». غير أن هذه الرؤية للنظام العالمي الناشئ في أعقاب الحرب العالمية الثانية سرعان ما تورطت في ديناميات الحرب الباردة، ما نجم عنه خسارة النظام العالمي لامتداده العالمي وقوته.
كانت الحرب الباردة لا تشبه أياً من الحروب السابقة، وبالتالي لم يكن من السهل فهمها. لقد شملت جميع أنحاء العالم، وعبرت الأطراف المتنازعة عن تنافسها عبر مصطلح الصدام الإيديولوجي، فنشأت حالة من الاستقطاب بين الكتلتين وسَمَت السياسة الدولية خلال فترة الحرب الباردة بميسمها.
لقد مضت ثلاثة وعشرون عاماً على نهاية الحرب الباردة، لكن ماذا فعلنا لمواجهة التحديات التي يمثلها النظام الدولي الناشئ؟ هل عقد مؤتمر على غرار مؤتمر فيينا أو قامت مؤسسة جديدة على غرار الأمم المتحدة، يتمكن من خلالهما أصحاب الشأن من إرساء الأسس التي نحن في أمسّ الحاجة إليها أو من وضع إطار دستوري للنظام العالمي الجديد؟
ففي نهاية المطاف، رافق انهيار القطبية الثنائية تحول اقتصادي هائل مع انتقال بؤرة النشاط الاقتصادي من حدود الاقتصادات الوطنية إلى مجالات إقليمية وعالمية أوسع نطاقاً. كما أن الثورة المرافقة لذلك في تكنولوجيا المعلومات أدت إلى تسارع عملية التحول الاقتصادي هذه. وعلى الصعيد الثقافي، حدث تحول أوسع نطاقاً نتيجة نهضة عدد من الجهات القومية والإقليمية، بل والحضارية، الفاعلة في آسيا والعالم الإسلامي وأميركا اللاتينية وإفريقيا. لذلك فقد آنَ لنا أن نعقد حواراً عالمياً وأن نلزم أنفسنا جميعاً بعقد صفقة جديدة كبرى بشأن النظام الاقتصادي والسياسي والثقافي.
لقد حاولت أن أبيّن أن الحاجة إلى طرح الأسئلة الصعبة والإجابة عليها بشأن ما يجب أن تكون عليه طبيعة النظام العالمي بعد الحرب الباردة ليست مجرد حاجة أكاديمية. فمن المهم، وبشكل ملحّ، أن يتحمل قادة العالم مسئولياتهم للتباحث بشكل أكثر جدية حول الحوكمة العالمية. والمسألة التي ينبغي أن نعالجها في هذا المنعطف هي مسألة حاسمة، فما هي الشروط المسبقة للحكم العالمي الحقيقي؟ إن مقاربتي لهذه المسألة ترتكز على فكرة من ثلاثة نظم فرعية لا تقوم للحكم العالمي من دونها قائمة، وأعني بذلك السياسة والاقتصاد والثقافة.
إن أول بُعْد للحوكمة العالمية والأكثر إثارةً للجدل، هو مسألة النظام السياسي. فالمعضلة القائمة هي: ما نوع النظام السياسي الذي نرغب في تأسيسه على المستوى الدولي؟ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وافق المجتمع الدولي على النظام السياسي الجديد الذي تمثله الأمم المتحدة. يستند هذا الناظم السياسي كغيره من الأنظمة، على مبادئ وإجراءات معينة وعلى الواقع السياسي. واستمرت منظومة الأمم المتحدة وتطورت في السنين اللاحقة، ثم تعزز تماسكها رغم ظهور جيل جديد من الدول القومية الناشئة من التحرر من الاستعمار.
ولكن منظومة الأمم المتحدة لا هي قادرة على استيعاب الظروف السياسية الحالية، ولا على مواجهة الكم المتزايد من التحديات العالمية. والمجتمع الدولي يزداد إدراكه لهذا القصور، كما يستدل على ذلك من الدعوات الواسعة لإجراء إصلاحات على نظام الأمم المتحدة على نحو يعكس احتياجات عالم اليوم وتطلعاته. ومع ذلك، فإن الدعوة لمناقشة إصلاح المنظومة الأممية لم تسفر حتى الآن عن نتائج ملموسة، ما أدى إلى خيبة في الآمال، وينبغي أن يكون مقياس الإصلاح هو قيام مؤسسات سياسية أكثر تمثيلاً وشمولاً داخل هياكل الأمم المتحدة. ومتى عولجت معضلة الإصلاح هذه، يمكن للأمم المتحدة أن توفر ركيزة أساسية للحوكمة العالمية.
فبالإضافة إلى إصلاح منظمة الأمم المتحدة وقواعد صنع القرار فيها إصلاحاً شاملاً، ينبغي على الأمم المتحدة إقامة علاقة بناءة مع المنظمات والأنظمة الإقليمية، وذلك من خلال الاستخدام الأنجع لصلاحياتها بموجب الفصل الثامن من ميثاقها. وينبغي كذلك إجراء حوار موازٍ هادف بين المؤسسات التي تدير النظام الإقليمي وترتيبات التعاون شبه الإقليمي.
في هذا الصدد، يمثل الاتحاد الأوروبي نموذجاً ناجحاً، حيث أقام نظاماً على مستوى القارة الأوروبية من خلال تدابير ناعمة وذلك انطلاقاً من إجماع أعضائه. ومع أن أزمة منطقة اليورو المستمرة تشير إلى أنه حتى هذه التجربة الأكثر نجاحاً في تحقيق التكامل الإقليمي قد تواجه صعوبات عند امتحانها من قبل التطورات العالمية السلبية، إلا أن دول غرب البلقان تهدف إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لا لسبب إلا لأنها استوحت من الاتحاد الأوروبي فكرة القوة الناعمة التي ستساعدها على تحقيق التماسك الإقليمي، وهي المشكلة التي مازالت تواجه هذه الدول.
وهناك منظمات إقليمية أخرى في أجزاء مختلفة من العالم تنحو ذات المنحى، مع أن إنجازاتها في هذه المرحلة لا تضاهي التقدم الباهر الذي حققته عملية التكامل الأوروبي. فالمبادرات الأخيرة للاتحاد الإفريقي مشجعة للغاية، ولاسيما أنها تعمل كمنظمة شاملة في كل أنحاء إفريقيا. وينبغي توسيع نطاق الممارسات الجيدة التي تم تجريبها واختبارها في هذه الأمثلة الناجحة على الصعيد العالمي.
مصير البلدان الثلاثة
لاشك أن مسألة الحوكمة العالمية مسألة ملحّة، فنحن نواجه في الوقت الراهن وضعاً أمنياً مقلقاً، وقد يزداد سوءاً في المستقبل. وبينما نتقدم لمعالجته، علينا أن نأخذ في الاعتبار مصير ثلاثة بلدان، وذلك لكي نضمن التفسير الصحيح للمشكلات الراهنة ولكي نكون على استعداد لمواجهة تحديات المستقبل. وهذه البلدان هي يوغوسلافيا السابقة والعراق وأفغانستان، وكلها شهدت صراعات عسكرية بدرجات متفاوتة وواجهت شبح الانهيار.
وما يجمع بينها هو أنه كانت في السابق دولاً عازلة في قلب التعاملات الاقتصادية في مناطقها، وكانت هذه الدول تمثل نماذج مصغرة لمناطقها؛ فيوغوسلافيا السابقة هي نموذج مصغر لمنطقة البلقان الصغيرة، وأفغانستان نموذج مصغر لوسط آسيا وجنوبها، والعراق نموذج مصغر لمنطقة الشرق الأوسط. فكل الأعراق والجماعات الدينية في منطقة البلقان كانت موجودة في يوغوسلافيا السابقة. وأفغانستان فيها بشتون وطاجيك وأوزبك وتركمان وخزر وشيعة وسنة. وبالمثل، في العراق عرب وأكراد وتركمان وشيعة وسنة ويزيديون وكلدانيون وآشوريون. فما هي العبر التي يمكن أن نستخلصها من تجارب هذه البلدان؟
إن عجزنا عن إدارة الأزمات في النماذج المصغرة في الأنظمة شبه الإقليمية، فإن هذه الأزمات تتحول إلى أزمات دولية تؤثر في النظام العالمي.
تمثل أفغانستان تحديات أمنية خطيرة. هناك طريق مسدود في أفغانستان، ولا يبدو أن الوضع ينحو للتحرك في الاتجاه الصحيح. ومع أن الأمن في أفغانستان هو قضية داخلية، فإنه لا يعني الأفغان وحدهم. فالوضع الأفغاني له انعكاسات على الأمن الإقليمي والدولي. وينبغي معالجة التحدي المتمثل في إعادة إعمار أفغانستان من خلال تعاون الأفغان مع الجهات الفاعلة الإقليمية والمجتمع الدولي. وحلف شمال الأطلسي موجود في أفغانستان للمساعدة في توفير الأمن في البلاد، ولأنه أيضاً أقوى منظمة أمن دولية في عصرنا. ولكن، كما يبين لنا الوضع الأفغاني، تتزايد الحاجة للربط المدروس والناجع بين المؤسسات شبه الإقليمية والإقليمية والقارية والعالمية.
إن أكبر تحدٍ سياسي يواجهنا في وقتنا الحاضر يتعلق، في بعض جوانبه، بقصور آليات حل المشكلات العالمية، وهذا القصور ناشئ من نظرة الدول ذات السيادة وأولوياتها أكثر مما هو ناشئ من منظومة الأمم المتحدة بحد ذاتها. فهناك مشكلتان تهددان مستقبلنا الإنساني المشترك وتعقدان الواقع الحالي، وهما استمرار حيازة الأسلحة النووية والتهديدات المتزايدة الناجمة عن أثر تراكم انبعاثات غازات الدفيئة في التغيرات المناخية.
فيما يتعلق بالأسلحة النووية، فقد تم الاتفاق منذ استخدامها لأول مرة العام 1945 ضد مدينتين في اليابان على أن التخلص منها أمر منهم بالنسبة إلى الأمن العالمي وإرساء الأسس الأخلاقية للنظام العالمي. نحن بحاجة إلى التذكير مرة أخرى بأنه ليس من المقبول أو المعقول أن ينقسم العالم إلى دول تملك أسلحة نووية ودول لا تملكها. أما فيما يتعلق بالتغيرات المناخية، فلا يبدو أن هناك إطاراً أممياً فاعلاً لتقديم مبادرة بشأنها. فلم يتحقق أي شيء مهم في مؤتمر كوبنهاغن العام 2009 ولا في اجتماع كانكون العام 2010، ولم يحدث شيء في ديربان العام 2011. ومع ذلك، تواصل غازات الاحتباس الحراري تراكمها، وهناك إجماع بين العلماء أنه كلما طال انتظارنا، ازدادت الاستجابة الوافية تكلفة وصعوبة.
إن التغيرات المناخية بشكل خاص تمثل دليلاً على حاجتنا إلى آلية عالمية لحل المشكلات، إذ لا تستطيع الدول أن تعمل بمفردها لإحداث التغيير، بل يجب أن تعمل في إطار يستدعي مستويات غير مسبوقة من التعاون بين الحكومات. نحن بحاجة إلى هيكلة من الحوكمة العالمية والمواقف الداعمة التي تسمح للقادة السياسيين بمعالجة التحدي المتمثل في التغيرات المناخية بطريقة تحمي مستقبل البشرية.
إقرأ أيضا لـ "أحمد داوود أوغلو"العدد 3591 - الجمعة 06 يوليو 2012م الموافق 16 شعبان 1433هـ