العدد 3591 - الجمعة 06 يوليو 2012م الموافق 16 شعبان 1433هـ

أرناؤوط والطواحين غير الوهمية

لا يحارب الكاتب الأردني الفلسطيني الأصل عباس أرناؤوط في روايته «الطواحين وأنا» أعداء وهميين تمثلوا له في صور طواحين هواء كما فعل دون كيخوتة في رائعة الإسباني ثرفانتس... بل أعداء فعليين بعضهم بشر من لحم ودم وبعضهم مجموعة من المصالح والأفكار التي تتحكم بهذا العالم.

رواية عباس أرناؤوط هي في النتيجة رواية شعب من خلال قصة فرد واحد من هذا الشعب. وهي من زوايا مختلفة لا تصور وضع هذا الشعب وحده بل وضع المنطقة التي ينتمي إليها أو وضع مجموعة الشعوب «الشقيقة» التي تعيش في هذه المنطقة.

وقبل البدء بالرواية يمهد عباس أرناؤوط لذلك بتقديم نظرته إلى الأدب والفن عامة وتحديده لهما وهو تحديد مطلق تقريباً يكاد لا يعترف بوجوه التحديد المختلفة التي يتداولها نقاد الأدب والأدباء. إلا أنه في النهاية يصب بشكل عام في ما سمي فكرة تداخل أشكال التعبير الفني على اختلافها لتتحول إلى أمر واحد وظيفته نقل ما في النفس بصور مختلفة لكنها صور تتداخل وتتكامل. ويطرح الكاتب أسئلة قديمة عن الأدب والفن عامة وعن وسائل التعبير الفني ودوافعه. يبدأ بالقول: «أريد أن أكتب... لماذا؟ لا أعرف. شيء في داخلي يريد أن يخرج فيريح ويستريح»... أريد أن أكتب ولا أعرف لماذا... وأعرف أن الذي يكتب عليه أن يعرف قواعد اللغة وقواعد الصناعة... أن يعرف أن للرواية بداية ووسطاً ونهاية... جملاً وتسلسلاً وفصولاً. للكتابة نظام وأنا أكتب بلا نظام ولا أكره مثلما أكره الخليل بن أحمد الذي وضع قواعد العروض وقنن موازين الشعر... وهل للشعر موازين وإشارات ضوئية نتوقف على أحمرها ونمشي على أخضرها؟ الشعر جواد جامح بلا سرج ولا ركاب. لم يروض ولن يروض ولا يحق لأحد أن يروضه فيكسر الحرية التي في داخلنا ويخلع جناح القلب أن يطير... ألا يحق لكل عصفور أن يغرد على غصن أية شجرة في هذه الدنيا فنطرب له وهو لا يعرف الخليل بن أحمد؟».

قد يكون عباس أرناؤوط هنا مصيباً إلى حد ما وإن أخطأ. معنى ذلك أنه أخطأ في القول إن الخليل بن أحمد وضع قواعد العروض. إنه هنا يذكرنا بطرفة لظريف لبناني راحل هو نجيب حنكش في وصفه للفينيقيين بقوله بالعامية: «الفينيكيين اللي اخترعوا البحر». الفينيقيون لم يخترعوا البحر. رأوه موجوداً فأبحروا فيه. وكذلك الخليل بن أحمد لم يخترع بحور الشعر بل وجدها قائمة قبله فغاص فيها معدداً صفاتها واستخرج منها أنماطاً معتمدة. الأرجح إذا لم نقل الأكيد أن عنترة وامرؤ القيس لم يسمعا بقوانين العروض ولم تخطر في بال أحد منهما «فعولن مفاعيلن» وغيرها بل حركتهما موسيقى معينة وسارا علي أنماط كانت مألوفة في أيامهما أو استعانا بها. ولنا أمثلة في الزجالين والشعراء الشعبيين وخاصة المرتجلين منهم فالواحد منهم يتبع أذنه ويسير غالباً على أنماط معروفة وقد يجدد بأن يأتي بنمط لم يكن مألوفاً سابقاً. وبهذا المقياس يصبح لعباس أرناؤوط الحرية في أن يكتب كما يشاء والحكم له أو عليه يكون بمقدار إجادته التعبير والتأثير في القارئ. يتابع المؤلف الكلام فيقول بحق: «أريد أن أكتب. قال لي صاحبي... في داخل كل منا منجم من ذكريات وتجارب وأحاسيس وأفكار وأسرار... فاحفر منجمك. وها أنا أحمل فأسي قبل أن تغرب الشمس وتميل إلى مغيب... وبعد لحظات سأضرب الأرض ولم لا».

ويكتب المؤلف بمزيج من القصة والشعر والنقاش العادي مع القارئ ومع هذه الحياة نفسها. وانتقل من جو شعري إلى آخر هو مزيج من الاثنين. يتحدث عن البداية ويسجل اختلاط البدايات والنهايات. قال: «قال الطبيب لأبي... زوجتك مريضة لا يلائمها هواء القدس القديمة... خذها إلى جبل الزيتون في الطور... نقف على سور البيت. ننتظر خروج الأولاد من المدرسة. بينهم ولد أشقر يدفع أترابه إلى اليمين والشمال. يركض. يركض دائماً. المرض يتسلل أعمى معصوب العينين. لا يفرق بين صغير أو كبير. ويمرض أخي عباس أياماً ويموت. هكذا ! قصة قصيرة! مر كنسمة صيف. ذبلت الزهرة والحزن لا يذبل».

ويتفلسف الكاتب عن الحياة والموت. يقول: «الموت هو سر الحياة واستمرارها. يقول الآباء لأبنائهم... تزوج يا ولدي لعلك ترزق بولد يحمل اسمك. بحث عن الخلود واحتيال على القادم لا محالة. احتيال يسميه العلماء غريزة البقاء - أكبر خدعة نخدع بها أنفسنا - أو تخدعنا بها الحياة. وهل ألف ابن وألف حفيد بمزحزحنا عن الموت؟»، ويروي قصة حياة بطل الرواية، يتحدث عن سفر له فيقول في وصف لم يعد يقتصر هذه الأيام على الفلسطينيين فقط: «هبطت الطائرة في مطار... مطار عربي. أحسست بالخوف بلا سبب أعرفه. لكنني أعرف أنني مواطن عربي والمواطن العربي عندما يدخل مطاراً عربياً هو متهم حتى تثبت براءته. عليه أن يتوقع الإهانة والقرف والبهدلة. ربما لحلم رآه في المنام... وقفت في الصف الطويل أنتظر دوري. وقفت أمام رجل الأمن بلا ابتسام فالابتسام في المطارات العربية يذهب بهيبة الدولة... - جنسيتك؟ - أردني. - أردني أردني؟ - وهذا جواز سفري - لكنك مولود في القدس يعني فلسطيني؟ تفضل. استرح خمس دقائق».

يتحدث عن الآلام والتشرد والعذاب سعياً إلى لقمة القوت. يقول عن الوعود التي أغدقت على الفلسطينيين عند تشردهم بعودة سريعة إلى ديارهم: «أيام ونعود. أكثر من ستين عاماً ولم نعد. كنت تحسب المسافة بين عمان والقدس زمن ساعة... فإذا هي سنوات وسنوات وعمر يطول وغربة لا تنتهي... أيام ونعود. البيت غرفة واحدة واسعة أمامها ساحة فيها نطبخ ونأكل ونغتسل. ونحن أكثر المهاجرين حظاً فللغرفة سقف وخيام اللاجئين بلا سقوف. يسكن الغرفة أحد عشر كوكباً... أبي وأمي وأطفال تسعة».

ينهي الرواية بقصيدة طويلة. يقول لأمه: «نعم يا أمي... أحب الحياة إلى حد العشق... والعشق إلى حد الحرية... والحرية إلى حد الموت... والموت إلى حد الحياة... رفعت رأسي... الحصان ينتظر فارساً. انحنيت على يد أمي. قبلتها. الطواحين أذرعها سوداء ملتهبة كالشياطين. لكز الفارس حصانه. تلك هي القصة. الطواحين وأنا».

العدد 3591 - الجمعة 06 يوليو 2012م الموافق 16 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً