تحظى الحوكمة العالمية بنقاش جاد بين طلاب السياسية، سواءً في الأوساط الأكاديمية أو السياسية. ولكي نفي هذا الموضوع المهم حقه، لابد لنا أن نتبنى منهجاً صارماً ونطرح تعريفاً دقيقاً لصفة «عالمية»، إذ لا يمكن أن نطور إطاراً شاملاً لتحليل ظاهرة الحوكمة العالمية المعقدة، أو أن نقترح سبلاً لنجاعتها إلا بهذه الطريقة. ولعل التجربة الشخصية تفيد البحث العلمي، حيث تقدم لنا رؤى عميقة عن كيفية عمل الحوكمة العالمية.
من هذا المنطلق، سأستهلّ بسرد تجربة شخصية أيقظت لديّ رغبة صادقة في التعرف على المعنى الفعلي لصفة «العالمية»، ثم سأنتقل للحديث عن القوى المنهجية الفاعلة في الحوكمة العالمية، وهذا يحتم علينا أن نضع هذه القوى في سياقها التاريخي. بعد ذلك سأنتقل لمعالجة الشروط الواجب توافرها مسبقاً لقيام حكم عالمي فعال، ثم أختتم بمناقشة المبادئ السياسية التي يمكن أن ينبني عليها هذا النظام.
تجربة شخصية
حدثت لي تجربة فتحت عيني حين كنت أدرس تاريخ الفكر السياسي في جامعة ماليزية سنة 1991. وكغيري من الأساتذة الذين يحضرون لدروسهم، انتهيت من وضع الخطة الدراسية واعتمدت مقرراً دراسياً كلاسيكياً يستخدم على نطاق واسع لتدريس تاريخ الفكر السياسي في العالم قاطبة. ولكن ما أن دخلت قاعة المحاضرة حتى أدركت إلى أي حد تتغلغل المركزية الأوروبية في عقلياتنا وسلوكياتنا، نحن أساتذة العلوم السياسية في الجامعات.
كانت التشكيلة التي يتألف منها الطلاب الحاضرون في المحاضرة هي المحفز الأول وراء إدراكي لهذا القصور الصاعق في رؤيتنا. لقد كان هناك ماليزيون صينيون ومسلمون، وصينيون بوذيون، وهنود هندوس، وماليزيون من أصول هندية، وطلاب من مختلف البلدان الإفريقية، بل كان هناك طالب من السلفادور أيضاً. وبعد معاينة دقيقة للطلاب، ألقيت نظرة على الكتاب المقرر عليهم.
كان كتاباً كلاسيكياً نمطياً، إذ يبدأ بأفلاطون ثم ينتقل إلى الإمبراطورية الرومانية، فالعالم المسيحي، فعصر الإصلاح، فعصر النهضة، فعصر الأنوار، فالإيديولوجيات الحديثة، ومن ثم يختتم بعرض شامل لمدارس الفكر السياسي الراهنة.
خبّأت الكتاب، لأنني لو قررته لكان هذا معناه أنني أعلم طلابي أنه لا وجود لهم في تاريخ الفكر السياسي، وكأن أسلافهم لم يوجدوا مطلقاً. وكيف لي أن أفعل هذا ونحن نعلم أن التراث الصيني في الفلسفة السياسية أقدم من الفكر السياسي اليوناني؟ والحضارة الهندية، بكل عظمتها، سبقت الحضارة الغربية بعهود طويلة. كما أن الحضارة الإسلامية أسهمت في الثقافة العالمية - بل في عولمة الثقافة - على امتداد قارتي آسيا وأوروبا. ولكن الكتاب، بكل بساطة، تجاهل كل تلك التراثات العظيمة. في تلك اللحظة أدركت أن تهميش الشرق يتجاوز المشكلة الأكاديمية والتحليلية.
كما أن للمسألة بعداً أخلاقياً، إذ إن التدريس من مقرر نمطي وفقاً لخطة دراسية نمطية يعني حكماً تجاهل لاعبين وقوى فاعلة في عالم الفكر السياسي. فلو أنني قلت لطلابي إن هذه الحضارات (أعني، إرثهم الثقافي) لا مكان لها في التاريخ السياسي، فهذا يعني أيضاً أنني أحرم هؤلاء الشباب من أي إمكانية لصياغة العالم في المستقبل. لذلك لم أشأ أن أكون جزءاً مما أحسبه عملية غسيل أدمغة. ولهذا، بدلاً من اتباع المنهج السائد، جمعت عينات من الفكر السياسي الصيني والهندوسي والإسلامي، واستخدمتها في قاعة التدريس إلى جانب النصوص عن الفكر السياسي الغربي.
تهميش الشرق
هذه التجربة الشخصية تسلط الضوء على مشكلة خطرة جداً في مقاربتنا لقضية العولمة. فنحن نجلس في الغرب ونتظاهر بأن لدينا ما يكفي من المعرفة عن تاريخ البشرية عبر آلاف السنين. ولكننا في الحقيقة نهمل جزءاً مهماً جداً من الصورة، سواء من الناحية التحليلية أو المعيارية، كما تبين لي من تجربتي في ماليزيا. لهذا السبب، علينا أن نحرص أشد الحرص على أن يكون تفكيرنا عالمياً بالمعنى الحقيقي للكلمة حين نتحدث عن الظواهر العالمية. وأنا شخصياً شرعت بجد في هذا السبيل حين جمعت نصوص كونفوشيوس وغيرها من نصوص الفلسفة السياسية ودرستها، وذلك من أجل خلق بيئة تعليمية أشمل في قاعة الدرس... بيئة عالمية حقيقية.
فإذا كانت هذه هي تجربتي في مجال التعليم الجامعي، فإنها وثيقة الصلة أيضاً بمجالات أخرى من التفاعل البشري كالسياسة والاقتصاد، ويجب أن يكون منطلقنا هو تحقيق الاندماج والتواصل بين أرجاء المعمورة قاطبة. ينبغي للمرء أن يعتقد أن أمن طفل صومالي لا يقل أهمية عن أمن طفله هو أو أمن الأطفال في سلوفينيا والبرازيل وغيرهما، إن نمط التفكير هذا لا مناص منه لتنمية شعورنا بالطابع العالمي الحقيقي لعالمنا. كما يجب علينا أن ندرك أيضاً أن هذا النوع من التفكير هو أكثر صعوبة من التغلب على عادة تجاهل بعض الأجزاء من العالم، فلو تبنينا مرجعية عالمية حقة، فعلينا أن نولي عناية قصوى لمشكلة الجوع في بعض المناطق الإفريقية وأن نستجيب لاحتياجات السكان الاقتصادية على الصعيد العالمي. وأي شيء أقل من هذا المنظور لا يرقى لمستوى التفكير العالمي الحقيقي.
في الواقع، إن مبدأ «الحوكمة العالمية» ذاته يلزمنا أن نعامل كل هذه المجتمعات بوصفها جزءاً من تاريخنا ومصيرنا المشترك. وفي الوقت نفسه، يجب علينا أن نقدّر مساهمات هذه المجتمعات في الماضي، والاعتراف بمساهماتها المحتملة اليوم والدور الذي يمكن أن تلعبه في صياغة مستقبلنا المشترك.
ينطوي مفهوم الحوكمة على وجود مراكز قوى متعددة، وفي هذا السياق، متداخلة. وبالتالي فهو يقف على النقيض من مفاهيم الحكم والهيمنة، أو الإمبريالية التي تستند إلى منطق ثنائيات الإقصاء مثل الداخل والخارج، أو المركز والهامش، أو الأعلى والأسفل. إن وجود مراكز متعددة للسلطة يمكن أن تعمل على منع أي شخص من الهيمنة على الآخرين. وبهذا المعنى، تعني الحوكمة العالمية تفاعل الجهات المختلفة على أساس الاحترام المتبادل.
بالطبع، يجب أن نكون واقعيين عندما نفكر في احتمالات التوصل إلى نهج جديد ومتجدد لقضية الحوكمة العالمية في القرن الحادي والعشرين. فنحن في نهاية المطاف نعمل في بيئة تسودها عوائق بنيوية ومؤسسية ونفسية وسياسية عميقة تحول دون التوصل إلى فهم أكثر شمولية لمعنى العالمية. ولكن هذا يحتم علينا أن نبحث باستمرار عن طرق لتشكيل عقلية جديدة ونهج جديد لعلّها تحوّل مؤسساتنا وسياساتنا الإقصائية نحو العالمية، فالتفكير العالمي والعقلية الجديدة من شأنهما أن ينقذانا من المعضلة التي واجهتني في قاعة التدريس بطريقة مفيدة حقاً، والآثار المترتبة على هذا التحول في الوعي تصبح قابلة للتوسع أضعافاً مضاعفة.
أزمتان عالميتان
نحن بحاجة لتسليط الضوء على نموذج وطبيعة الترابط المنظومي التي قد تعترض بحثنا عن حكم عالمي حقيقي. لقد واجهتنا منظومتان مهمتان في السنوات القليلة الماضية. الأولى كانت النزاع الروسي - الجورجي سنة 2008، والثانية كانت انهيار الأسواق المالية في الولايات المتحدة، وهو الانهيار الذي تحوّل إلى أزمة اقتصادية عالمية مازالت تؤثر في حياة الشعوب في جميع أنحاء العالم بطرق عميقة ومتباينة. لذلك حان الوقت لطرح تساؤلات جدية عديدة في مسألتي المنظومتين هاتين. فما الذي تعلمناه من هذين التحديين؟ هل أفلحنا في التعامل مع الآثار السلبية المصاحبة لهما؟ وكيف يمكننا منع انتشار هاتين المشكلتين أو معاودة ظهورهما؟ وهل مؤسساتنا القائمة قادرة على تقديم حلول شاملة؟
أودّ في هذا المقام أن أستذكر تجربة تركيا إزاء التوتر في دول جوارنا القوقازي بسبب الصراع بين روسيا وجورجيا. فقد تصاعدت حدة التوتر إلى مستوى النزاع العسكري خلال فترة العطلة الصيفية سنة 2008، وكان النزاع في بداية أمره مشكلة إثنية بين جورجيا وإقليميها الانفصاليين المستقلين، أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ولكن هذه المشكلة العرقية سرعان ما تصاعدت إلى أزمة بين طرفين هما جورجيا وروسيا. وفي غضون أربعة أيام، تحوّلت هذه القضية إلى قضية إقليمية في منطقة البحر الأسود. وقد شعرنا في تركيا بهذا التوتر في جوارنا والبحر الأسود بسبب النزاع بين جارينا المهمين، وما زاد في الطين بلة هو شعورنا بالتوترات الناجمة عن المطالب المتزايدة بمرور السفن الحربية الأميركية عبر المضائق التركية بحجة تقديم مساعدات إنسانية إلى جورجيا. وفي غضون أسبوع، غدت هذه القضية مشكلة أمنية عالمية، حين أوشكت روسيا على خوض مواجهة عسكرية مباشرة ضد حلف الناتو في البحر الأسود.
هكذا فاق نزاع محلي جداً كل التوقعات، واكتسب بعداً عالمياً في الحال تقريباً، هذا المثال وحده يكفي لإثبات أن الوسائل القائمة لمنع الصراعات وحلها تفتقر إلى أدوات معالجة الحالات الطارئة العديدة التي قد تنشأ من دون سابق إنذار، وفي أي وقت. لذلك من الضروري وضع آليات جديدة أكثر فعالية ومعالجة مشكلات مماثلة ومنع نشوبها في المستقبل.
والأزمة المالية برزت بطريقة مماثلة كذلك، فعندما ضربت الأزمة الأسواق المالية، ركز معظم المراقبين على أثرها في قطاعات المؤسسات المالية ذاتها فقط، وقليل منهم من ظنّ أنها سيكون لها أي أثر أبعد من ذلك على الاقتصاد العالمي. لكن ما أن مضت بضعة أشهر فقط، حتى اتضح خطأ كل تلك التحليلات التي نظرت إلى الأزمة بوصفها مشكلة وطنية أو حتى قطاعية. فالأزمة التي عانينا منها كانت أوسع نطاقاً بكثير، وكان لها تأثير مباشر وكبير على شبكات الإنتاج في جميع أنحاء العالم، فتناقص الطلب والعرض في الوقت نفسه. وهكذا تحولت الأزمة المالية إلى أزمة اقتصادية عالمية واسعة النطاق في غضون بضعة أشهر.
وقد كان للأزمة العالمية آثار بعيدة المدى، ما تسبب في أزمات حكومية وانهيارات فعلية في نهاية المطاف، كما تسببت في مصاعب مدمرة لفئات اجتماعية معينة. ومن إحدى نتائج هذه الأزمة هو نشوب اضطرابات اجتماعية واقتصادية في أنحاء كثيرة من عالمنا، وقد نجمت هذه الاضطرابات عن ارتفاع معدلات البطالة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، والاعتقاد السائد بأن النظام القائم يجور جوراً عميقاً في توزيع المكافآت والعقوبات.
إن العبرة السريعة المستمدة من هاتين الحالتين هي أن درجة الارتباط المتبادل والترابط في النظام الدولي اليوم تفوق قدراتنا الخيالية الحالية بكثير، فهذان الحدثان يبينان أن ما يدعى بالأزمات المحلية يمكنها بسهولة أن تتطوّر إلى أزمات عالمية بعيدة المدى قد تهدد حتى الركائز الأساسية للنظام العالمي السياسي أو الاقتصادي، ما لم يحسب لها حساب منذ البداية أو بالأحرى، ما لم يمنع حدوثها بشكل استباقي.
إقرأ أيضا لـ "أحمد داوود أوغلو"العدد 3590 - الخميس 05 يوليو 2012م الموافق 15 شعبان 1433هـ