استكمالاً للمقالة السابقة نجد لزاماً علينا في البداية أن نجدد القول: إن نجاح فرصة أي حوار قادم لابد من أن ينطلق من مجموعة أسس ومنطلقات تشكل جميعها بمثابة خريطة طريق لكل الأطراف المعنية بعملية الحوار، فعدا قضيتي الجدية والإرادة اللتين تعكسان الرغبة في الخروج من نفق الأزمة الراهنة، هناك طبعاً الآليات والأهداف وتحديد الأطراف المشاركة بوضوح ثم السقف الزمني الذي يجب هو الآخر أن يكون محدداً وعدم ترك العملية دون مثل هذه الضوابط. وبدون أفق زمني.
أحد أهم الأسس في تقديرنا هو في وطنية الحوار، بمعنى أبعاده عن أي نزعة أو تصور يصنف المواطنين والقوى التي تمثلهم تحت عناوين أو يافطات مذهبية أو طائفية، لأننا في حقيقة الأمر لسنا في حالة معركة طائفة ضد أخرى، إنما في حالة صراع سياسي حتى وإن جرى إلباسه لبوساً طائفياً، فإن ذلك لا يغير من الواقع شيئاً. كما إن أي حل ينتج عن هذا الحوار يجب أن يفضي إلى استقرار ديمقراطي واجتماعي حقيقي، وليس استقراراً مصطنعاً يمكن أن يسقط أو ينهار عند أول هزة سياسية أو اجتماعية.
وهناك حقيقة مهمة يجب أن تكون ماثلة في أذهان كل المتحاورين خاصة من جانب الدولة أو السلطة السياسية، وهي ضرورة الإقرار بأن الأحداث والتطورات الكبرى التي يشهدها أي مجتمع، وترافقها بعض النزاعات الأهلية، مهما كانت طبيعتها أو حجمها، عادة ما تؤدي إلى إحداث تغيير جوهري في الكثير من المفاهيم والرؤى ومن أبرزها نظرة المواطنين لطبيعة العلاقة مع الدولة. فالناس بعد أن تقدم الكثير من التضحيات وتعاني من الظلم والإقصاء فإنها (الناس) ستحاول حتماً نزع الصفة المتعالية لهذه الدولة/السلطة وستصرّ على تحديد سلطاتها وتحميلها مسئولية أعمالها التي يجب أن تخضع للمحاسبة والمراقبة، لأنه من المهم أن يشعر المواطن أن الدولة التي تحتضنه هي دولته حقاً وليست دولة آخرين يسعون إلى إقصائه والاستحواذ على كل شيء مقابل حرمانه من أي شيء فيها. هنا سيأتي مطلب وجود حكومة تمثل إرادة هؤلاء الناس مطلباً عادلاً وضرورياً.
مسألة أخرى تتعلق بوعي الأطراف المشاركة في الحوار بمعنى أنه لابد أن تتوافر عند الجميع قناعة بأهمية وضرورة الحوار، وفي كل الظروف، ومهما بلغت حدة الخلافات بين هذه الأطراف، لأن وجود واستمرار هذا الحوار هو دون شك هو أفضل من القطيعة التامة، لأنه بمجرد شعور الناس بجدية العملية الحوارية، وبأنها ستسفر عن خطوات إصلاحية حقيقية تستجيب لمطالبهم العادلة، فإن ذلك سيدفع الوطن إلى حالة من الاسترخاء السياسي والاجتماعي، وهو أمر مطلوب وضروري لأنه يجعل هؤلاء الناس أكثر استعداداً وأكثر قابلية للتجاوب مع أية مبادرة مطروحة في هذا الشأن، وعلينا ألا ننسى هنا عامل الثقة الذي بات معدوماً بين جميع الأطراف السياسية والقوى المجتمعية، لذلك لابد من بعض الخطوات التي تساعد على استحضار هذا العامل المفقود. وفي اعتقادنا أن الالتزام التام والصادق بتنفيذ كل توصيات تقرير بسيوني سيشرع الأبواب أمام الجميع للدخول في هذه العملية باطمئنان وقناعة تامة.
ومن أجل ضمان نجاح هذه العملية لابد من بعض الإجراءات العملية منها على سبيل المثال لا الحصر، قراءة أسباب الأزمة الراهنة ومجرياتها قراءة صحيحة وعادلة، وإجراء تقييم شامل للوضع السياسي والاجتماعي في البلاد، ومن ثم البدء بتصحيح الكثير من المعادلات والتوازنات المختلة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، في هذا الوضع، لأنها هي المسئولة عن تفجر هذه الأزمة. وهذا الأمر يتطلب اعترافاً صريحاً بوجود أزمة سياسية ودستورية حقيقية، تستدعي معالجة سريعة عبر مبادرات وآليات سياسية، باختصار مطلوب إرجاع القضية إلى مربعها السياسي الذي انطلقت منه، وإخراجها من الدائرة الأمنية والطائفية التي جرى إدخالها فيها عنوة، ولأسباب لم تعد خافية أو مجهولة بعد أن لمس المواطنون نتائجها المدمرة.
نقول ذلك، لأنه لايزال هناك من يصرّ على التعاطي مع هذه الأزمة وتداعياتها من منطلقات طائفية، ويعتقد أن الحل يجب أن يكون طائفياً أيضاً، وهنا مكمن الكارثة أو الهاوية التي يريد هذا البعض أخذنا إليها، أي أن هذه الأطراف التي تنظر إلى الأزمة وكأنها قضية طائفية لا ترى بضرورة وأهمية الحل الوطني الشامل، إنما تؤمن بالحل الفئوي الطائفي، القائم على المحاصصة وتقاسم النفوذ وفق معادلات طائفية، الأمر الذي يعني بقاء استمرار الاصطفاف والتخندق الطائفي المسئول أساساً عن تعقيد الأزمة وتفجرها بهذا الشكل المقلق والمخيف، ولسنا نجهل مخاطر هذا التوجه على الوطن وعلى كيان الدولة ووحدة شعبها. فليس من المعقول أو المقبول، أن يبقى هذا البلد رهينة لخيارات جميعها مرة ومدمرة، أي إما القبول باستمرار هذا الفرز الطائفي والصراع على الهوية المذهبية إلى ما لا نهاية، أو الخضوع لمنطق المحاصصة الطائفية، كما هو حاصل في النموذج العراقي بعد الاحتلال، فنحن جميعاً نرى ونلمس بشكل يومي وتفصيلي النتائج الكارثية لمثل هذه العملية الفاسدة، مهما حاول البعض تجميلها ببعض المساحيق الديمقراطية.
وأخيراً نقول إنه لابد في سياق هذه العملية أن تتوافر القناعة التامة لأهمية إفساح المجال أمام كل الطاقات والكفاءات الوطنية للمشاركة في الحياة العامة، وصنع مستقبل البلد، بدلاً من تدمير أو إقصاء هذه الكفاءات عبر الإصرار على الكثير من الإجراءات والسياسات الإقصائية، ونرى أن وجود برلمان منتخب كامل الصلاحية وتوزيع عادل للدوائر الانتخابية يقربنا من هذا الهدف المهم، وهذا يعني أن الدولة مطالبة بإعادة صياغة وعيها وفهمها لمفهوم المواطنة الذي يجب أن يستوعب ويدمج الجميع في بناء وقيادة الدولة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وهنا لابد من خطوة شجاعة تتمثل في القطيعة المطلقة مع الماضي بكل حمولته الثقيلة وبكل ما فيها من تمييز وتقييد للحريات وغياب العدالة والحقوق المتساوية، ولابد من وقفة جادة عند الكثير من الشكاوى والمظالم التي تختزنها ذاكرة الناس القديم منها والحديث، ولابد من إبداء الاستعداد لسماع هذه المظالم والتجاوب مع أصحابها بإرادة سياسية صادقة، بعيداً عن منطق القوة وأوهامها، وبعيداً عن النزعة الأمنية ومخاطرها.
إقرأ أيضا لـ "محمود القصاب"العدد 3589 - الأربعاء 04 يوليو 2012م الموافق 14 شعبان 1433هـ
عدل السعة وسعة العدل
حينما تفرق تسد ظلماً ويتفرق الناس، بينما، سوي ولا تساوي ليسود العدل ويجتمع الناس. ففي العدل سعة.
فالظلم ظلام، و العدل لا يرى في الظلام. والنور يبدد الظلام ولا يقضي عليه. فالإنسان السوي من يسوي ولا يساوي.
وهذا لا يكون إلا على أساس واحد هو الإنسان. فقد بينت فشلها الذريع في تحقيق العدل واغتالت الحق الإنساني ظلماً وعدواناً، عند ما قامت على أسس لا إنسانية مثل الفئوية والقبلية والطائفية والمذهبية..
فكيف تساوي بين من أحسن عمل بمن أساس إلى نفسه والى غيره؟
وهل تساوي بين من يعلمون ومن لا يعلمون؟